الإسلام
الحج: من رحلةٍ مقدسةٍ إلى وسيلةٍ معاصِرة للرياء والتفاخر
في الوقت الحاضر، مثلما يعاني العديد من أنشطتنا وفغالياتنا من مشكلة الرياء وانعدام الإخلاص، فإن الحج أيضاً يواجه مشكلة كبيرة تحت هجمات العالم الرقمي. فـــــــــــــــــتَحْتَ تأثيـــرِ الحداثة والتطور التكنولوجي والعولمة، أصبحت طبيعةُ الحج الهادئةُ الربانية مضطربةً وصاخبةً بشكل متزايد
*تحرير*
على مدار أربعة عشر قرناً، كان الحج ولا يزال يُعتبر عند المسلمين ركنا مهما من أركان الإسلام، وواجباً مفروضاً على المسلمين. فالحج، الذي يعود أصله إلى أبينا إبراهيم عليه السلام، يظهر كدليل دائم على الإيمان والتضحية والوحدة. وشعيرة الحج لم تنقطع حتى عهد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فابتداء من السنة الأخيرة من حياة نبينا عليه أفضل السلام وأتم السليم وحتى يومنا هذا، يُعتبر الحج من أعمق التجارب الدينية في العالم، حيث بلغت المشاركة في الحج ذروتها في عام 2019 مع 2.4 مليون حاج. وهذه العبادة ليست ذات بُعد جسدي فقط، بل لها أيضاً بُعد روحي. ويتمثل ذلك في تجمُّع الحجاج في جبل عرفات بملابسهم الإحرامية المتواضعة والنظيفة في شكل يجسد مشهداً يُذكِّر الناس بيوم القيامة. وفي حياتنا الدنيوية، يُعلمنا الحج الوحدة والتواضع، إذ المسلمون من مختلف الثقافات، ومع اختلاف وتنوع لغاتهم يمثلون جسداً واحداً عند التقائهم في تلك البقعة المباركة. فخلال الحج، تُنسى المتغيرات المفرّقة مثل الوضع الاجتماعي، والقوة السياسية، والاختلافات الثقافية والحالة الاقتصادية، لأن الكل واقف أمام الله تعالى.
الاستسلام أو التفاخر
في الوقت الحاضر، مثلما يعاني العديد من أنشطتنا وفغالياتنا من مشكلة الرياء وانعدام الإخلاص، فإن الحج أيضاً يواجه مشكلة كبيرة تحت هجمات العالم الرقمي. فـــــــــــــــــتَحْتَ تأثيـــرِ الحداثة والتطور التكنولوجي والعولمة، أصبحت طبيعةُ الحج الهادئةُ الربانية مضطربةً وصاخبةً بشكل متزايد، وذلك نتيجةَ تغلغل وانتشار ثقافة وسائل التواصل الاجتماعي المعاصرة. حيث تسللتْ ظاهرة توثيق وتصوير كل لحظة وكل عمل يقوم به الحاج إلى هذه العبادة المقدسة؛ فأصبح معظم الحجاج منشغلين بالهواتف الذكية في معظم الأوقات التي يجب أن تكون مخصصة للحج والعبادة والتفكر. فبدلاً من الانشغال فقط بقراءة القرآن وأداء العبادات يشعر حجاج اليوم بالحاجة إلى تحديث حالاتهم على وسائل التواصل الاجتماعي.
في الواقع، من الصعب القول إن مشاركة شخصٍ ما لتجاربه مع الآخرين خطأ تماماً، حيث يمكن من خلال وسائل التواصل الاجتماعي خلق الوعي، وتوفير المعلومات للأحباء، وإلهام الآخرين للذهاب إلى الحج. ولكن المشكلة تأتي عندما تزيد هذه المشاركات عن حدها وتتحول إلى تفاخر، مما يسسب إخراخ الحج عن معناه وهدفه الحقيقي. إن تحويل الحج من رحلة مقدسة إلى حدث آخر يُعرَض على إنستغرام أو فيسبوك مع الهاشتاجات والفلاتر يشكل خطرا كبيرا متمثلا في تدمير جوهر العبادة، وقد يكون سببا في نقص أجر الحج أو عدم قبوله عند الله بشكل عام.
مأزق عصا السيلفي
إحدى المشاكل التي يواجهها الحج في مواجهة التكنولوجيا تتمثل في استخدام عصا السيلفي. كانت هذه الأداة مخصصة في يوم من الأيام للسياح في برج إيفل، لكنها الآن دخلت الأماكن المقدسة في مكة. وأصبح التقاط السيلفي أمام الكعبة، وحتى أثناء الطواف، منظرًا شائعًا في الحج اليوم. وعلى الرغم من أن الرغبة في التقاط صور تذكارية في بعض اللحظات هي طبيعة إنسانية، إلا أن إعطاء الأولوية للسيلفي المثالي على الفعل الروحي يمكن اعتباره علامة على مشكلة أعمق: الانتقال من العبادة إلى التباهي.
تخيلْ صعوبة إدارة عصا السيلفي أثناء محاولة مجاراة الحشود أثناء الطواف. إنه منظر عبثي، وعلى أقل تقدير يمكن اعتباره سخيفًا إن لم يكن دليلاً على الانحراف الثقافي. الحجاج الذين ينغمسون في رغبة تصوير ومشاركة رحلاتهم قد يفوتون اللحظات المباركة التي يجب أن يغتنمها الحاج. علاوة على ذلك، قد يزعج مثل هذا الحاج الآخرين، وقد يقع في الرياء الذي يُعد شركًا صغيرًا.
من التواضع إلى الهاشتاغات
مرة أخرى، يجب تذكيرنا بأن الحج يؤكد على التواضع والبساطة والانفصال عن الممتلكات الدنيوية. يرتدي الحجاج ملابس بسيطة (إحرام) ليرمزوا إلى حالة النقاء الروحي والمساواة أمام الله العلي. ومع ذلك، فإن دخول وسائل التواصل الاجتماعي إلى هذا المجال المقدس يخلق تناقضًا: تطبيق مصمم لتعزيز التواضع والتفكر الداخلي يتحول إلى وسيلة لخدمة البحث عن الشهرة وجذب انتباه وإعجاب الآخرين. الناس الآن يعرضون لحظاتهم وحتى يقومون ببثها المباشر. بل يوجد هناك بعض الحجاج يشاركون في جلسات تصوير مصغرة، ويتأكدون من أنهم يظهرون بأفضل شكل أثناء أداء الطقوس، ويرتدون في التصوير الحزمَ الفاخرة وملابسَ الإحرام الفاخرةَ الخاصة بالطبقة الثرية، وهذا أكبر مثال على تحويل رحلةٍ كان الهدف منها الانفصالَ عن الماديات إلى عرضٍ للثراء والمكانة والرياء والتفاخر.
تقليدياً، يجب أن يكون وقت الحج إلى مكة مخصصاً للتأمل الشخصي والنمو الروحي. إنه وقت للتفكر العميق في التحديات المختلفة التي تهدف إلى زيادة الإيمان والتقوى. فالحج في جوهره هو الاقتراب من الله وشكره على نعمه. ومع ذلك، يمكن أن تشتت الرغبة في التصوير ومشاركة الفعاليات المستمرة انتباه الشخص وتبعده عن هذه التجربة الإيمانية العميقة. فبدلاً من العثور على العزلة والتربية الروحية، قد يجد الحجاج أنفسهم يتحققون باستمرار من هواتفهم ويتأكدون من بقاءهم على اتصال مع جمهورهم عبر الإنترنت. والمفارقة هنا واضحة جداً. في حين نُصبح مهووسين بالحصول على إعجاب الآخرين، نبتعد عن الهدف الأساسي للحج الذي هو طلب رضا الله ومغفرته. وهذا التناقض هو تحدي معاصر يتطلب توازنًا دقيقًا بين فوائد الاستفادة من وسائل التواصل الاجتماعي وقدسية العبادة الشخصية.
دعوة للتوازن
لقد جلبت التكنولوجيا مساهمات كبيرة للإنسان في العصر الحديث، وجعلت ما كان في السابق مستحيلا أو صعبا ممكناً وهينا في العديد من المجالات بما في ذلك الأمور الدينية. وعندما نركز على الحج بشكل خاص، نرى أن التكنولوجيا يمكن أن تربط الحجاج بأحبائهم، وتتيح للسلطات تقديم المزيد من الخدمة والمساعدة لهم، وتوفر منصة لمشاركة جمال وأهمية الحج وجوّه الروحاني العظيم. ومع ذلك، يجب علينا أن نحرص على الحفاظ على الجوهر الديني أثناء الاستفادة من هذه المزايا، كما يجب علينا أن نحافظ على التكامل الروحي للحج بشكل خاص. ويجب على الحجاج -من باب أَولى- إعطاء الأولوية لرحلتهم الروحية على التوثيق الرقمي، ويجب تشجيعهم على أن يكونوا حاضرين في الحج بأرواحهم وأبدانهم وعلى إعطاء كل وقتهم للحج فقط.
لا يزال الحج أحد أهم الرحلات الروحية والتجمعات الدينية على مستوى العالم. ويظل هذا العمل الديني الذي يتمحور حول التواضع والتضحية والوحدة مصدر إلهام لملايين المسلمين وحتى غير المسلمين في جميع أنحاء العالم. ومع ذلك، لم يكن محميًا من التأثيرات السلبية للتكنولوجيا وثقافة وسائل التواصل الاجتماعي، مثله في ذلك مثل جميع جوانب الحياة الحديثة، حيث يواجه الحاج في هذا العصر تحدِّيًا كبيرا بين الموازنة في الرغبة في مشاركة تجاربه الشخصية في الحج، وبين اداء شعائر الحج والغوص في أعماقه الروحيه. ومن المهم أن يحتفظ الحجاج بالهدف الحقيقي للحج – التطهير الروحي والاتصال بالخالق – في مقدمة الأولويات، دون الانجراف إلى جاذبية التباهي والسعي وراء الإعجاب والشهرة.
الكاتبة: جليلة أوموبولانلي أولانيان
الترجمة: مدثر موسى
Be the first to comment .