Sosyal Medya

الثقافة

التاريخ كأداة لاستشراف المستقبل: دور سوريا ومصر في حل قضية بيت المقدس

تحتل مدينة بيت المقدس موقعًا محوريًا في النسيج التاريخي والديني العالمي، فهي أكثر من مجرد موقع جغرافي جميل. إنها مهد الرسالات السماوية، أرض الرباط والجهاد ومركز النبوات، تفيض بركتها الروحية والتاريخية على ما يتجاوز حدودها المادية

**

 

في خضم التحديات الجيوسياسية المعاصرة، تبرز قضية بيت المقدس كمحور أساسي في الشرق الأوسط، لا سيما في أعقاب الأحداث الأخيرة في غزة. هذه التطورات تستدعي تأملاً عميقاً في صفحات التاريخ لاستلهام الحلول وصياغة الرؤى المستقبلية لهذه القضية المحورية.

تهدف هذه المدونة إلى تحليل الدور التاريخي والمستقبلي لسوريا ومصر في إيجاد حل لقضية بيت المقدس. تستند منهجية هذه المدونة إلى تحليل تاريخي يستقرئ الأحداث الماضية ويستخلص منها الدروس المستفادة، مسترشدة بالرؤية القرآنية التي تحث على التأمل في تجارب الأمم السابقة، كما ورد في قوله تعالى: "أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم"(غافر : 82.(

إن فهم الأحداث التاريخية المتعلقة ببيت المقدس، والتفاعلات السياسية والعسكرية التي شكلت مصيرها عبر العصور، يوفر أساسًا صلبًا لتحليل الوضع الراهن واستشراف آفاق الحل، ومن هذا المنطلق تتناول هذه المدونة كيفية استفادة سوريا ومصر من موقعهما الجغرافي وعمقهما التاريخي وثقلهما السياسي للعب دور محوري في إعادة صياغة مستقبل بيت المقدس ورسم خارطة طريق مستقبلية للعالم العربي والإسلامي، مستفيدة من دروس الماضي، وذلك في سياق الصراع المستمر والتحديات الراهنة التي تواجها المنطقة.

 

بيت المقدس :

تحتل مدينة بيت المقدس موقعًا محوريًا في النسيج التاريخي والديني العالمي، فهي أكثر من مجرد موقع جغرافي جميل. إنها مهد الرسالات السماوية، أرض الرباط والجهاد ومركز النبوات، تفيض بركتها الروحية والتاريخية على ما يتجاوز حدودها المادية.

على مر العصور، شكل هذا المكان المقدس بؤرة للتفاعلات الحضارية والدينية المتنوعة، مما أثرى سجله التاريخي وعمّق أهميته في الوعي الجمعي للأمم.

عبر تاريخها الممتد، شهد بيت المقدس تقلبات عديدة من فتح وتحرير وضياع، مما أثرى تاريخها بالعبر والدروس القيمة. في هذه المدونة، سنستعرض المراحل الست الرئيسية في تاريخ بيت المقدس، مسلطين الضوء على الاستراتيجيات العسكرية المتبعة والدروس المستفادة في مجالي الوحدة السياسية والتخطيط العسكري، لنستخلص منها العبر التي قد تنير طريق الحاضر والمستقبل.(محمد إلهامي)

 

المرحلة الأولى: الفتح الإسلامي الأول (16 هـ / 637 م)

تمثل مرحلة الفتح الإسلامي الأول للقدس بقيادة الخليفة عمر بن الخطاب (16 هـ / 637 م) بداية الحكم الإسلامي لهذه المدينة المقدسة. إلا أن أهمية هذا الفتح لا تأتي فقط من الناحية الدينية، بل أيضًا من الاستراتيجية العسكرية التي اتبعها المسلمون لتحقيق هذا النصر.

فلم يكن هذا الفتح عشوائيًا، بل سبقته سلسلة من الأحداث والقرارات العسكرية المدروسة، كان أبرزها فتح دمشق، العاصمة السياسية لبلاد الشام. ففي السنة الرابعة عشرة للهجرة، بعد حوالي اثنين وعشرين  شهرًا من بدء حملات الفتح الإسلامي للمنطقة، تم فتح دمشق، وهذا الفتح كان ضروريًا لتمهيد الطريق نحو القدس. ويعكس هذا التوجه الفهم العميق لدى الصحابة لأهمية السيطرة على المراكز السياسية قبل التوجه إلى المدن ذات الأهمية الدينية.

ويرجع ذلك إلى أن دمشق كانت تمثل مركز السلطة والنفوذ في المنطقة والوجه الحقيقي المنبثق عن الحضارة العربية، والسيطرة عليها كانت بمثابة السيطرة على بلاد الشام بأكملها، مما يسهّل التحكم بالطرق والمسارات الاستراتيجية المؤدية إلى القدس. فلو تم فتح القدس أولاً، لكان من الصعب الحفاظ عليها في ظل التهديدات المستمرة من الشمال حيث كانت دمشق لا تزال تحت سيطرة البيزنطيين. وبذلك يمكن القول إن فتح دمشق كان جزءًا لا يتجزأ من الفتح الإسلامي للقدس.

 

المرحلة الثانية: الاحتلال الصليبي الأول او لنقل الضياع الأول (492 هـ / 1099 م) :

شهدت القدس في أواخر القرن الخامس الهجري (أواخر القرن الحادي عشر الميلادي) فترة حرجة عُرفت بالضياع الأول. تجلت هذه المرحلة في سقوط المدينة المقدسة بيد الصليبيين عام 492 هـ / 1099 م، نتيجة لانقسام عميق في العالم الإسلامي. فقد انشطرت الأمة بين الخلافة العباسية في بغداد، المدعومة من السلاجقة، والدولة الفاطمية الشيعية في القاهرة. هذا الانقسام السياسي والمذهبي أدى إلى انفصال حاد بين مصر والشام، مما أضعف الجبهة الإسلامية بشكل كبير. فاستغل الصليبيون هذا الوضع، مستفيدين من الصراعات الداخلية بين المسلمين والتحالفاتالمنحرفة الخاطئةلدى الكثير من القادة ، خاصة بتعاون الفاطميين معهم ضد السلاجقة.

في هذا السياق المضطرب، أطلق البابا أوربان الثاني دعوته عام 1095م للحملة الصليبية الأولى، مستغلاً ضعف العالم الإسلامي. تحركت جيوش الصليبيين من أوروبا نحو الشرق واستطاعت بعد سلسلة من المعارك، احتلال شمال الشام بما في ذلك مدن مثل أنطاكية وطرابلس.، ثم الاستيلاء على القدس من الفاطميين الذين كانوا قد سيطروا عليها لفترة وجيزة. في 15 يوليو 1099م، تمكنت القوات الصليبية من اقتحام أسوار القدس بعد حصار دام حوالي خمسة أسابيع. انتهت المعركة بمذبحة جماعية للسكان .

سقوط القدس كان صدمة كبيرة للعالم الإسلامي، وأدى إلى محاولات عديدة لاستعادة المدينة خلال العقود التالية. هذه الفترة شهدت صعود شخصيات مثل عماد الدين زنكي وابنه نور الدين، الذين بدأوا في توحيد الجبهة الإسلامية ضد الصليبيين، مما مهّد الطريق لتحرير القدس لاحقاً على يد صلاح الدين الأيوبي عام 1187م.

 

المرحلة الثالثة: التحرير الأول (583 هـ / 1187 م):

تعد استعادة صلاح الدين الأيوبي للقدس من قبضة الصليبيين عام 583هـ/1187م إنجازًا تاريخيًا محوريًا في سلسلة الأحداث التي شهدتها المدينة المقدسة. هذه المعركة الحاسمة لا يمكن فصلها عن الجهود الاستراتيجية والتكتيكية التي بذلها نور الدين زنكي سابقًا في توحيد الشام والمناطق المحيطة تحت قيادة موحدة.

لقد استغرق صلاح الدين عقدين من الزمن في بناء قوته العسكرية وتوحيد مصر والشام، مستفيدًا من الأرضية التي مهدها  نور الدين زنكي قبله. فبعد وفاة نور الدين في عام 1174، خلفه ابنه الصغير الملك الصالح إسماعيل، مما أدى إلى نشوب خلافات وصراع على السلطة بين قادة الجيش.

في هذه الأجواء المضطربة، برز صلاح الدين كقائد بارز ينتهز الفرصة للتقدم إلى دمشق وحسم الموقف. فقام بتنصيب نفسه وصيًا على حكم نور الدين، وبذلك أصبح الحاكم الفعلي للمناطق التي كان نور الدين قد وحدها.

بعد ذلك، عاد صلاح الدين إلى مصر وتلقى تفويض الخليفة العباسي بالحكم في الإمارات السابقة سنة 1176. هذا التفويض الرسمي من الخليفة العباسي منح صلاح الدين الشرعية والقوة اللازمة لتوحيد مصر والشام تحت قيادته.

هذه اللحظة التاريخية كانت محورية في مسار صعود صلاح الدين وتمكينه من استكمال المشروع الذي بدأه نور الدين زنكي في توحيد المناطق تحت قيادة موحدة. وهذا مهد الطريق أمام صلاح الدين لتحقيق إنجازه التاريخي في تحرير القدس من الصليبيين،ىليتمكن من هزيمة الصليبيين في معركة حطين الشهيرة عام 583هـ/1187م. هذا النصر مهد الطريق أمامه لاستعادة القدس والمسجد الأقصى من سيطرة الفرنجة.

كان لتحرير القدس صدى عظيم في العالم الإسلامي والغربي على حد سواء. فقد شكّل هذا الإنجاز نقطة تحول في موازين القوى، وأعاد الثقة للمسلمين في قدرتهم على استعادة أراضيهم المقدسة. كما أثار ردود فعل قوية في أوروبا، دفعتها لإطلاق حملات صليبية جديدة للاستيلاء مرة أخرى على القدس.

إن الدروس التاريخية التي يمكن استخلاصها من تجربة صلاح الدين وسابقه نور الدين زنكي تؤكد على أهمية الوحدة الإسلامية والتكامل الاستراتيجي بين الدول المحيطة بفلسطين كدمشق والقاهرة. فكما كان ذلك المفتاح لتحرير القدس آنذاك، فإنه ما زال ضروريًا لمواجهة التحديات المعاصرة وإعادة الحقوق المسلوبة للشعب الفلسطيني.

 

المرحلة الرابعة: فترات الضياع الثانية (624-641 هـ / 1227-1244 م):

في أعقاب وفاة صلاح الدين الأيوبي، شهدت الدولة الأيوبية انقساماً داخلياً حاداً، حيث تم تقسيم الدولة بين أبنائه وأقاربه. هذا التقسيم كان نتيجة اتفاق مسبق وضعه صلاح الدين قبل وفاته لتجنب النزاعات الداخلية، لكنه أدى إلى ضعف الدولة وانقسامها إلى عدة إمارات تحت سيطرة أمراء مختلفين من عائلته.هذا التقسيم، الذي وضع أدى إلى إضعاف الجبهة الإسلامية الموحدة التي كانت قد تشكلت تحت قيادة صلاح الدين.

ومع ضعف الدولة الأيوبية وتفككها استمرت الحملات الصليبية على المنطقة منها الحملتان الصليبيتان الخامسة والسادسة اللتين كشفتا عن التعقيدات الجيوسياسية في المنطقة. فالحملة الخامسة، بتركيزها على مصر بدلاً من القدس مباشرة، أظهرت إدراكاً استراتيجياً لأهمية مصر في معادلة السيطرة على الأراضي المقدسة. اذ حاول الصليبيون في البداية السيطرة على دمياط، لكنهم واجهوا مقاومة شرسة من القوات الأيوبية في مصر بقيادة الملك الكامل، أحد أبناء صلاح الدين الأيوبي خلال هذه الحملة، فحدث تحالف غير متوقع بين الملك الكامل الأيوبي والإمبراطور الألماني فريدريك الثاني، حيث عرض الكامل تسليم القدس للصليبيين مقابل انسحابهم من مصر الا أن موقف الملك الكامل خلال هذه الفترة يستحق دراسة متأنية. فاستعداده للتنازل عن القدس مقابل الحفاظ على مصر يشير إلى تحول في الأولويات الاستراتيجية، ربما نابع من إدراكه لأهمية مصر كقاعدة للقوة الإقليمية.

 أما الحملة السادسة (1228-1229)، بقيادة فريدريك الثاني، كانت مختلفة عن سابقاتها، حيث لم تتضمن مواجهات عسكرية كبيرة. فالإمبراطور فريدريك الثاني، الذي قاد الحملة، اعتمد بشكل كبير على الدبلوماسية بدلاً من الحرب لتحقيق أهدافه.

من خلال المفاوضات مع السلطان الكامل الأيوبي، تم توقيع معاهدة سلمية في عام 1229 م، بموجبها تم تسليم القدس وبعض المدن الأخرى للصليبيين دون قتال.

انتهت الحملتان بإعادة رسم الخريطة الجيوسياسية للمنطقة، حيث استعادت أوروبا بعض الأراضي المقدسة دون تحقيق نصر حاسم، بينما حافظ الأيوبيون على السيطرة في مصر ودمشق، مع بدء تحول ميزان القوى لصالح المماليك الذين سيبرزون لاحقًا.

هذه الأحداث أبرزت مدى تعقيد الوضع السياسي والجيوسياسي في المنطقة، حيث كانت كل خطوة تتخذ من قبل أي طرف تتأثر بسلسلة معقدة من العوامل الداخلية والخارجية.

 

المرحلة الخامسة: التحرير الثاني تم تحرير القدس مرة أخرى على يد نجم الدين أيوب:

شهدت هذه المرحلة الحاسمة من تاريخ القدس الإسلامي تحولًا جذريًا في موازين القوى، وذلك بفضل الجهود الاستثنائية للسلطان الصالح نجم الدين أيوب. فبعد فترة من الانقسام والضعف التي أعقبت وفاة صلاح الدين الأيوبي، برز نجم الدين كقائد فذ استطاع إعادة توحيد الصفوف وإحياء روح المقاومة ضد الوجود الصليبي في المنطقة.

بدأ نجم الدين مسيرته بتوحيد مصر تحت قيادته عام 1240م، مستغلًا خبرته السياسية والعسكرية في تعزيز قوة الدولة الأيوبية. أدرك أهمية بناء تحالفات استراتيجية، فاستمال الجنود الخوارزميين الذين كانوا يبحثون عن موطئ قدم بعد سقوط دولتهم على يد المغول. هذه الخطوة الذكية وفرت له قوة عسكرية ضاربة أضافت زخمًا كبيرًا لجيشه.

استغل نجم الدين الظروف الإقليمية المعقدة لصالحه، مستفيدًا من الخلافات بين القوى المحلية والصليبية. عندما انتهك الصليبيون اتفاقياتهم السابقة وقاموا بأعمال استفزازية في القدس، وخاصة في المسجد الأقصى وقبة الصخرة، استثمر نجم الدين هذا الغضب الشعبي لحشد الدعم لحملته التحريرية.

فقاد نجم الدين تحالفًا قويًا ضم القوات المصرية والخوارزمية، ونجح في هزيمة القوات الصليبية وحلفائهم المحليين في معركة فاصلة قرب غزة عام 1244م. كانت هذه المعركة نقطة تحول حاسمة، إذ مهدت الطريق لاستعادة القدس.

دخلت القوات الإسلامية القدس بقيادة الخوارزميين، وعلى عكس سياسة التسامح التي اتبعها صلاح الدين، اتسم هذا التحرير بقدر من القسوة تجاه الصليبيين المتواجدين في المدينة. رغم ذلك، فإن استعادة القدس كانت إنجازًا عظيمًا أعاد للمسلمين سيطرتهم على المدينة المقدسة.

نجح نجم الدين في تثبيت الحكم الإسلامي في القدس والمناطق المحيطة بها، معيدًا بذلك مجد الدولة الأيوبية. كان لهذا النصر صدى واسع في العالم الإسلامي، كما أنه أثار ردود فعل قوية في أوروبا، مما أدى إلى الدعوة لحملة صليبية جديدة.

بفضل قيادة نجم الدين الحكيمة وقدرته على توحيد الصفوف واستغلال الفرص الاستراتيجية، تمكن من تحقيق ما عجز عنه أسلافه لسنوات عديدة. كان تحرير القدس تتويجًا لجهوده في إعادة بناء قوة الدولة الأيوبية وتأكيدًا على أهمية الوحدة الإسلامية في مواجهة التحديات الخارجية.

 

المرحلة السادسة: الضياع الثالث الحالي(1336 هـ -1917 م ):

هذه المرحلة في تاريخ القدس تمثل نقطة تحول مؤلمة وحاسمة، حيث شهدت المدينة المقدسة ضياعها النهائي تحت الاحتلال البريطاني خلال الحرب العالمية الأولى. قبل هذه المرحلة، كانت القدس تتمتع بأمان نسبي تحت الوحدة السياسية الأوسع التي ضمت مصر والشام.

طوال فترة الحكم المملوكي والعثماني، كانت مصر والشام دولة موحدة، وبذلك كانت القدس تحظى بالحماية والأمان لقرون متتالية. ولم يكن هناك من يجرؤ على المساس بأمن المدينة المقدسة طالما ظلت هذه الوحدة السياسية قائمة.

ولكن عندما نجح الإنجليز في احتلال مصر وفصلها عن الشام، انهارت هذه الوحدة المانعة. واستغل الإنجليز هذا الانقسام والتفكك السياسي، واحتلوا القدس بمساعدة بعض العناصر المحلية التي تمكنوا من تجنيدها.

في هذا السياق، تبرز مذكرات ثيودور هرتزل كمصدر ثري للمعلومات حول النهج الدبلوماسي والقانوني الذي اتبعه في سعيه لإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين. هذه المذكرات تكشف عن جهود دبلوماسية مكثفة ومعقدة، امتدت عبر العواصم الرئيسية للقوى العظمى في ذلك الوقت، بما فيها إسطنبول، لندن، روما، سانت بطرسبرغ، وبرلين.

من الملاحظ أن هرتزل أولى أهمية قصوى للحصول على موافقة رسمية، وخاصة من الدولة العثمانية، قبل أي محاولة لتأسيس وجود يهودي في فلسطين. هذا الموقف يعكس فهماً استراتيجياً عميقاً لأهمية الشرعية القانونية في تحقيق الأهداف السياسية طويلة المدى. فقد رفض هرتزل بشدة فكرة التسلل غير القانوني لليهود إلى فلسطين، مدركاً أن مثل هذا النهج قد يؤدي إلى عواقب وخيمة.

يمكن تفسير موقف هرتزل هذا من خلال عدة اعتبارات استراتيجية. أولاً، الهجرة غير الشرعية كانت ستثبط عزيمة المهاجرين المحتملين بسبب المخاطر الكبيرة المرتبطة بها. ثانياً، المستوطنون غير الشرعيين كانوا سيكونون عرضة للطرد أو الاضطهاد من قبل السلطات العثمانية والسكان المحليين. وأخيراً، وربما الأهم، كان هرتزل يدرك أن الوجود القانوني المعترف به دولياً سيوفر أساساً متيناً للمطالبة بحقوق سياسية وحماية دولية في المستقبل.

استراتيجية هرتزل كانت تهدف إلى إنشاء وجود يهودي شرعي في فلسطين كخطوة أولى نحو تحقيق الاستقلال الذاتي التدريجي. هذا النهج التدريجي كان يهدف إلى تأسيس وجود قانوني معترف به، ومن ثم بناء مؤسسات وهياكل حكم ذاتي بشكل تدريجي، مع تجنب المواجهة المباشرة مع السلطات القائمة.

إن دراسة هذه الاستراتيجية تقدم دروساً قيمة في فهم أهمية الدبلوماسية الدولية وقيمة الشرعية القانونية في بناء المشاريع السياسية طويلة المدى. كما تسلط الضوء على فعالية النهج التدريجي في تحقيق الأهداف السياسية المعقدة.

يؤكد التحليل التاريخي على أن فترات قوة القدس وأمنها كانت مرتبطة بشكل مباشر بوحدة مصر والشام، سواء تحت حكم المماليك أو العثمانيين. هذه الوحدة شكلت درعاً واقياً للقدس لقرون عديدة. ومع ذلك، فإن الضياع الأخير للقدس في العصر الحديث جاء نتيجة لانفصال مصر عن الدولة العثمانية تحت وطأة الاحتلال البريطاني، مما سهل لاحقاً احتلال القدس.

من منظور استراتيجي، تعكس استمرارية وجود الأنظمة الحاكمة  في سوريا و مصر حالة معقدة في المنطقة، حيث يُنظر إلى دورهما بشكل متباين فيما يتعلق بأمن إسرائيل والمنطقة ككل.أن هذا الوضع يعيق التعاون الحقيقي بين دول أبناء المنطقة ويضعف قدرتها على اتخاذ مواقف موحدة تجاه قضايا القدس  . هذا الوضع يثير تساؤلات حول طبيعة العلاقات الإقليمية والدولية التي تقف مع إسرائيل وكيفية تأثيرها على قضية تطبيع العلاقات مع الأنظمة المستبدة في المنطقة .

 

** الكـــــــاتبــــــــة: أروى

Be the first to comment .

* * Required fields are marked