السياسة
السنوار: القائد المشتبك ورمز الشجاعة والتحرر في تاريخ المقاومة
"أكبر هدية يمكن أن يقدمها العدو والاحتلال لي هي أن يغتالني وأن أقضي شهيدًا على يده، أنا اليوم عمري 59 سنة، أنا في الحقيقة أفضل أن أستشهد بالـ إف16 على أن أموت بكورونا أو بجلطة أو بحادث طريق أو بطريقة أخرى مما يموت به الناس، في هذا السن اقتربت من الوعد الحق (الموت) وأفضل أن أموت شهيدًا على أن أموت فطيسة"
**
إن قراءة المستقبل وتوقع الإنسان كيفية نهاية حياته من الأمور التي يصعب تصورها وتخيلها، لكونها من الأمور الغيبية التي لا يعلمها إلا الله. ولكن هناك ناسًا مدافعين عن قضايا صادقة ومجيدة، هؤلاء الأشخاص صدقوا ما عاهدوا الله عليه فحقق الله لهم أمنياتهم وأعطاهم النهاية التي تصوروها وتوقعوها. وقليل ما هم. ولعل أعظم مثال على هذا التوفيق يتمثل في حكاية وأسطورة رجل عظيم أطلق توقعًا وأمنية وتصريحًا تاريخيًا حول الخاتمة التي يتمناها، حيث قال قبل ثلاث سنوات في إحدى اللقاءات الصحفية: "أكبر هدية يمكن أن يقدمها العدو والاحتلال لي هي أن يغتالني وأن أقضي شهيدًا على يده، أنا اليوم عمري 59 سنة، أنا في الحقيقة أفضل أن أستشهد بالـ إف16 على أن أموت بكورونا أو بجلطة أو بحادث طريق أو بطريقة أخرى مما يموت به الناس، في هذا السن اقتربت من الوعد الحق(الموت) وأفضل أن أموت شهيدًا على أن أموت فطيسة". هذا التصريح الذي أطلقه الرجل في ذلك الوقت قد يظن البعض أنه مجرد تصريح أو نزوة عابرة قالها الرجل في ذلك الوقت. ولكن الأيام أثبتت صدق الرجل في مقاله، وكأنه كان يقرأ كتابًا من المستقبل. عندما ينظر المرء إلى تاريخه، يخيل إليه أن هذا الرجل كأنما أتى إلى هذه الدنيا ليوقظ ضمير أمته النائمة أولًا، ثم ضمير الإنسانية جمعاء، ويلفت انتباهه إلى قضيته وقضية شعبه الذي عانى ولا يزال يعاني تحت وطأة ظلم وبطش أسوأ احتلال مر على البشرية في الوقت الذي كان العالم على وشك أن ينسى أو يتناسى تلك القضية العادلة، وذلك بحركة جريئة ستكون نقطة تحول في مجرى التاريخ البشري... فمن هو بطل مقالتنا يا ترى!؟
إنه ذلك الرجل النحيل المتوسط القامة، الرجل النحيف البنية الجسدية الذي قد يزدريه الناظر إليه لأول وهلة، ولكن عندما يقف أمامه وينظر في عينيه ويسمع صوته سيشعر أنه أمام أسد مغوار مقدام لا يعرف الخوف ولا الاستسلام إلى قلبه سبيلًا. هذا الأسد، أعني أسد القرن الحادي والعشرين، هو أبو إبراهيم يحيى إبراهيم حسن السنوار. الرجل الذي بينه وبين شهور أكتوبر قصص حب وعشق طوال حياته.
لقد أثبتت التجارب والأحداث التاريخية أن الإنسان ابن بيئته مطبوع بالطبيعة الجغرافية التي يولد ويعيش فيها. إذ إن الظروف الطبيعية التي يتواجد فيها الشخص لا بد وأن تترك أثرًا ملموسًا في تكوينه الشخصي والفكري. وهذه الحقيقة ظاهرة في شخصية السنوار، حيث فتح عينيه على الدنيا في 19 أكتوبر عام 1962م وأهله يعيشون في مخيم للاجئين في مدينة خان يونس التي هجّرهم إليها الاحتلال الصهيوني بعدما دمر قراهم وبلداتهم في مدينة عسقلان التاريخية وغيّر اسمها إلى "أشكلون". وفي هذا المخيم عانى السنوار - شأنه في ذلك شأن بقية الأطفال الفلسطينيين - من ظروف صعبة من الفقر والتهميش. هذه المعاناة والظلم كانت الوقود والمحرك الذي أشعل في داخله روح مقاومة الاحتلال والظلم رغم إيمانه العميق بأن الحرية ثمنها غالٍ، وأن طريقها ليس مفروشًا بالورود. ولكن عزيمته ولسان حاله يقول:
عشْ عزيزًا أو متْ وأنت كريمُ بين طعنِ القنا وخفقِ البنودِ
إذا لم يكن إلا الأسنّة مركبًا فما حيلة المضطر إلا ركوبها
تلقى السنوار تعليمه في مدينة خان يونس حتى الثانوية، ثم أكمل دراسته الجامعية في الجامعة الإسلامية بغزة وتخرج منها في شعبة الدراسات العربية بدرجة البكالوريوس. وأما حياته الزوجية، فقد تزوج في 21 نوفمبر 2011 من السيدة سمر محمد، ورزق منها بولد سماه "إبراهيم"، وبه يكنى.
أولى خطواته السياسية:
لقد كانت النزعة النضالية ضد الاحتلال سارية في عروق السنوار ودمه منذ أن فتح عينيه على الدنيا، وأهله يعانون الظلم والتنكيل والاضطهاد. وقد وضع أول حجر في هذه المسيرة عندما كان طالبًا جامعيًا، حيث لعب دورًا منقطع النظير في الأنشطة الطلابية، وانضم إلى الكتلة الإسلامية التي تمثل الفرع الطلابي لجماعة الإخوان المسلمين في فلسطين. وقد استطاع السنوار أن ينتقل في مناصب عديدة خلال هذه المرحلة ووصل إلى منصب الرئاسة في بعض اللجان الطلابية. وقد لعبت هذه الأنشطة الطلابية والإدارية التي تولاها دورًا كبيرًا في صقل شخصيته القيادية، كما ساعدته على اكتساب الخبرة والتجربة التي ستلعب دورًا كبيرًا في مستقبله السياسي.
انضمامه لحركة المقاومة الإسلامية "حماس":
انضم السنوار إلى حركة حماس منذ تأسيسها عام 1987. وقد أدرك السنوار منذ اللحظة الأولى أنه من المستحيل أن يبلغ بيتٌ ما تمامه إذا كان في الداخل من يهدمه، وبالتالي، لكي تحقق الحركة أهدافها، لا بد من تطهير الساحة الداخلية من الهدامين والخونة المتواجدين في غزة، والذين كانوا يعملون كعملاء وجواسيس للعدو الصهيوني. ولتحقيق ذلك، أنشأ مع بعض رفاقه جهازًا أمنيًا استخباراتيًا بتكليف من مؤسس الحركة الشيخ أحمد ياسين تحت اسم منظمة الجهاد والدعوة "مجد". هذه الخطوة الاستراتيجية المتمثلة في تأسيس هذا الجهاز الأمني شكلت ضربة قوية للعدو أفقدته بصره الذي كان يراقب كل شيء في الداخل، وبالتالي استطاعت الحركة أن تنطلق كالسهم في طريق تنفيذ أعمالها النضالية وخططها الاستراتيجية.
السنوار في سجون الاحتلال:
كان من الطبيعي أن يصبح السنوار على رأس قائمة المطلوبين للكيان، ولمَ لا! والسنوار هو الذي لعب دورًا بارزًا في تأسيس الجهاز الأمني الذي فقأ عين العدو وتركه في الظلام مثل الأعمى الذي فقد عصاه.
ومن هنا ستبدأ رحلته الطويلة في زنازين سجون الاحتلال، حيث تم اعتقاله مرتين في عامي 1982 و 1985، ولبث في السجن عدة أشهر، ثم أفرج عنه في كلتا المرتين. وبعد سنتين، أعاد الاحتلال اعتقاله بتهم اختطاف وقتل جنديين صهيونيين وإعدام بعض العملاء الخونة من الفلسطينيين، وصدر بحقه 4 مؤبدات (426 عامًا). ولكن لا يوجد على وجه الأرض من يستطيع أن يجمع البحر في قدح، أو الريح في زجاجة، أو أن يحاصر رجلًا ذا همة وعزيمة صاحب قضية عادلة بين جدران السجن!
لقد علّمتنا التجارب التاريخية أن المرء عندما يكون صاحب قضية عادلة وصادقة، فإنه لن توقفه القيود والجدران والحواجز مهما كانت قوية. إذ إن أمثال هؤلاء الرجال، بعزيمتهم الصادقة القوية، يصنعون من المحنة منحة، ومن السجن جنة، ومن المستحيل ممكنًا. وبالتالي، فإن رجلًا مثل السنوار يستحيل أن تكسر همّتَه غياهبُ السجون وسلاسلُ الزنازين. إن مما يحيّر اللبَّ، ذلك الإيمانُ القوي عند السنوار بأن شمس الحرية ستطلع عليه من جديد وسيخرج من هذا السجن يومًا رغم الأحكام المؤبدة الصادرة بحقه، ولذلك بدأ يعدّ نفسه لذلك اليوم العظيم، يومِ الحرية له ولأصحابه في السجن. لقد استغل السنوار السنوات الـ23 التي قضاها في السجن أحسن استغلال؛ فتعلم اللغة العبرية وعكف على دراسة عقلية العدو ومجتمعه وتكوينه السياسي والأمني، لأنه أدرك أن معرفة الإنسان لعدوه بشكل جيد تُعدّ من أقوى الأسلحة لمواجهته. كما ألّف بعض الكتب وترجم كتبًا أخرى خلال هذه الفترة. وخلال المدة التي عاشها في السجن، كانت له مساهمات كبيرة في قيادة مواجهات الأسرى مع مصلحة السجون الصهيونية، وقد تولى قيادة الهيئة العليا لأسرى حماس في السجون لفترتين. ولقد صدق المثل القائل: "الأسد يهاب وإن كان جريحًا"، فيحيى السنوار أخاف العدو حتى وهو معتقل عنده، لقد أخافهم بنشاطه بين الفلسطينيين داخل السجن مما اضطرهم لنقله إلى حبس انفرادي ومنع أهله من زيارته لأكثر من 13 سنة، كل ذلك سعيًا منهم لكسره وتحطيمه نفسيًا وذهنيًا، ولكن أنَّى لرجل مثل السنوار أن يلين أوينكسر أمام العواصف!
السنوار يخرج من السجن:
تمر عقارب الساعة سريعةً ليأتي ذلك اليوم المشهود، يومُ الحرية الذي أُطلق فيه سراح يحيى السنوار مع أكثر من ألف أسير فلسطيني تم تحريرهم في صفقة "وفاء الأحرار" التي تمت بين الكيان الصهيوني وحماس، وتم بموجبها الإفراج عن الجندي الصهيوني الأسير "جلعاد شاليط" مقابل ذلك العدد من الفلسطينيين. وقد كان هذا الحدث العظيم بتاريخ 18 أكتوبر 2011م.
بعد خروجه من السجن، انتُخب في عام 2012 عضوًا في المكتب السياسي لحركة حماس، كما تولى مسؤولية الجناح العسكري "كتائب عز الدين القسام" ولعب دورًا كبيرًا في تعزيز القدرات القتالية والتكتيكية للحركة. فكان من أهم اللمسات التي تركها على شكل وهيكل الجناح العسكري قيامه بعد انتهاء العدوان الصهيوني على غزة عام 2014 بإجراء تحقيقات وعمليات تقييم شاملة لأداء القيادات الميدانية، مما أسفر عن إقالة بعض القيادات وتعيين قيادات جديدة مكانها استعدادًا للمرحلة القادمة من الجولات ضد الكيان الصهيوني الغاصب... وليس ذلك غريبًا، فالتغيير وضخّ دماء جديدة سنة الحياة في كل شيء.
السنوار مهندس طوفان الأقصى:
تم انتخابه كرئيس للمكتب السياسي للحركة في غزة عام 2017، وأعيد انتخابه عام 2021 ليكون بذلك قد تولى هذا المنصب لولايتين متتابعتين. وتستمر علاقة الحب والعشق بين السنوار وشهر أكتوبر، ليأتي ذلك اليومُ الذي سيبقى مسطرًا بأحرف من نور على ذاكرة التاريخ على مر الأزمنة والعصور، يومُ 7 من أكتوبر الذي سطرت فيه المقاومة ملحمة أسطورية، إذ أطلقت المقاومة الفلسطينية عملية "طوفان الأقصى" التي كسرت حصون وجُدُر الاحتلال وقراها المحصنة، ودخل عليهم رجال المقاومة الباب في مشهد حـــــــــــــيّـــــــــــــر العالم وترك العدو الصهيوني في حالة ارتباك وذخول وشلل شبه تام لا يدري ما الذي سيفعل، وبذلك أثبتت المقاومة للعالم أجمع أن الحق والعزم وإرادة الحرية والعيش الكريم لن يستطيع الوقوف أمامه سلاح العدو الفتاك وجبروته ووحشيته مهما عظمت. وقد نال شرف هندسة وتخطيط هذه الملحمة أبو إبراهيم السنوار.
أمام هذه اللطمة، جن جنون الاحتلال الصهيوني، وأقسم أنه سيعيد قطاع غزة إلى العصر الحجري، وسيقضي على المقاومة، ويدمر قدراتها العسكرية، ويحرر الأسرى الصهاينة. وبعد صمود أسطوري من المقاومة أمام آلة القتل والتدمير الصهيونية الأمريكية الغربية، عجز الاحتلال عن تحقيق أيٍّ من أهدافه، وكل ما استطاع فعْلَه هو إبادة الشعب الفلسطيني الأعزل. وفي سبيل الدفاع عن الأرض والعرض، قدّمت المقاومة شهداء على جميع المستويات، بما في ذلك القادة الكبار، وكان آخرهم وليس الأخير القائد أبو إبراهيم يحيى السنوار، الذي استشهد في 18 أكتوبر 2024، وهو يشتبك في الخطوط الأمامية مع الجيش الصهيوني.
وقفات مع السنوار في آخر لحظات حياته وبعد استشهاده:
- حادثة استشهاده كشفت عن النفاق والعجز والتواطؤ عند الكثير من المسلمين، وخاصة أصحاب السلطة والنفوذ. فالبعض لم يجرؤ حتى على الترحم عليه، بل إن الذين نعوه فعلوا ذلك بشكل عام دون التجرأ على ذكر اسمه بشكل خاص. أما آخرون فلم يكتفوا بالصمت، بل أطلقوا العنان لقنواتهم الفضائية للنيل من السنوار وحركة المقاومة، مستخدمين أوصافًا لم تجرؤ حتى قنوات العدو الصهيوني على إلصاقها بهؤلاء القادة الأبطال.
- النهاية الأسطورية التي ختم بها السنوار حياته جعلت من كل ما يتعلق بآخر لحظاته أيقونة تاريخية. الشقة والكرسي اللذان شهدا المشهد الأخير من حياته أصبحا مصدر فخر واعتزاز لأصحاب المنزل. هذه الشقة الواقعة في شارع ابن سينا بحي السلطان غرب مدينة رفح جنوبي قطاع غزة تعود ملكيتها إلى عائلة أبو طه التي أجبرت على إخلائها جراء العدوان الصهيوني على غزة. فرغم الدمار الذي لحق بمكانهم، إلا أن فرحتهم لا توصف؛ إذ اعتبروا -بحسب تصريحاتهم- أن الله أنعم عليهم بأن يكون بيتهم مسرحًا لهذه اللحظات التاريخية لبطل المقاومة الكبير. بعد استشهاد أبو إبراهيم وانتشار الفيديو على وسائل التواصل الاجتماعي، قام مالكو الشقة بنشر صورها القديمة مرفقة بالصور الجديدة التي ظهر فيها السنوار وكتبوا:
"بيتنا زاد شرفًا وفخرًا بأبي إبراهيم القائد المثابر". "نشكر الله أن نوَّلّنا (أعطانا) هذا الشرف". "باسمي وباسم عائلة أبو طه، كلنا فخر بأن أبا إبراهيم نال الشهادة في بيتنا، ها قد نالها مقبلًا غير مدبر". "أطهر وأشرف كنبة وكرسي في العالم كله في بيتنا، رحمك الله وأسكنك فسيح جناته يا أبا إبراهيم". "تحصن في منزل يعود لعائلتنا، وارتقى فيه مجاهدًا مدافعًا حتى آخر نفس". "يا فخرنا به وبكل من سار على هذا الدرب فداءً للحق، ولهذا الطريق تهون أرواحنا وبيوتنا وكل ما نملك".
ا
لصور القديمة للشقة والكرسي مرْفقة بالصور الجديدة التي فيها القائد أبو إبراهيم
- حتى العصا التي كانت السلاح الأخيرالذي استخدمه السنوار لمواجهة الاحتلال تحولت إلى أيقونة تاريخية. أصبح تعبير "عصا السنوار" رمزًا للشرف والعز وعدم الاستسلام والدفاع عن القضية الحقة حتى آخر لحظة، وهاكم بعضًا من تلك المعاني:
"ألقى عصا السنوار": بذل آخر ما لديه من جهد وموارد في سبيل تحقيق هدفه.
"كانت عصاه كعصا السنوار": استخدم آخر ما يملك من قوة في مواجهة التحديات.
"واجه الأمر بعصا السنوار": تصدى للموقف بكل ما أوتي من قوة، حتى لو كانت محدودة.
"عصا السنوار آخر سلاحه": استنفد كل خياراته وإمكانياته، ولم يبق لديه سوى وسيلة بسيطة للمقاومة.
وهكذا دخلت عصا السنوار التاريخ من أوسع أبوابه، وأصبحت رمزًا لمعانٍ عميقة تتعلق بالشجاعة، والمقاومة المستمرة، والصمود، والإصرار، والثبات في مواجهة العدو. إنها تجسيد للبسالة والأنفة والحرية، وعدم الاستسلام رغم محدودية الموارد حتى آخر لحظة.
لوحة فنية تظهر القائد الملهم السنوار مع عصاه في آخر يحدٍّ للاحتلال
- إن الله يستخدم العدو أحيانًا لنصرة الحق: فالعدو الصهيوني بعدما ضاق ذرعًا برؤية الحالة الأسطورية والإشارة العالمية التي تجلت في مقطع الفيديو الذي صوَّر اللحظات الأخيرة للسنوار وهو يقاتل حتى الرمق الأخير، حاول تشويه صورته بنشر فيديو آخر له وهو في النفق مع زوجته وابنه وبعض الأدوات البسيطة. وعلَّق العدو على الفيديو بأن السنوار يعيش في الأنفاق بينما يموت الفلسطينيون. لكن انقلب السحر على الساحر، وحدث عكس ما كان يتمناه العدو الصهيوني.
ولنفترض جدلًا أن الفيديو صحيح، فإنه في الواقع دليل على عبقرية السنوار وبعد نظره العسكري القيادي وحسن تخطيطه التكتيكي. دعونا ننظر إلى الأمر ونحلله بمنطقية: تخيلوا قائدًا عسكريًا يستعد لحرب كبيرة بعد ساعات قليلة ضد عدو قاسٍ يستبيح إبادة البشر والحجر والحيوان، فما الذي ينبغي أن يفعله ذلك القائد؟ بكل تأكيد، سيكون جوابكم: ينبغي أن يبقى ذلك القائد يقظًا وفي مكان آمن لإدارة الحرب. ليس لأجل حياته فقط، بل لأجل شعبه الذي يخوض الحرب من أجل حريته واستقلاله. لأن سلامة القائد مهمة جدًا في مسار الحرب، وأي خطأ أو تصرف غير مدروس من قبله قد يغير نتيجة المعركة، وبالتالي يؤثر على مستقبل شعب بأسره.
في ظل هذه الظروف، لو لم يقم القائد بتأمين نفسه وأخذ الاحتياطات اللازمة، وخرج في وسط الناس في مكان مكشوف لطائرات العدو ومدافعه بحجة إظهار الشجاعة، حتى لا يُقال إنه جبان، لقلنا بكل تأكيد: إن هذا الشخص متهور وغبي، ولشككنا في قدراته العسكرية والقيادية.
والاحتماء في الأنفاق هو تكتيك حربي استخدمه الفيتناميون بفاعلية ضد الأمريكيين حتى تمكنوا من هزيمتهم. بل إن هذا التكتيك ليس مقتصرًا على حركات المقاومة، إذ تستخدمه أيضًا الجيوش النظامية. الأنفاق والمباني المحصنة تحت الأرض تعد جزءًا من الاستراتيجيات العسكرية الحديثة لتأمين القوات والقادة، وتجنب الضربات الجوية والهجمات المفاجئة. فهذه التحصينات توفر حماية استراتيجية للقادة والعسكريين لإدارة المعارك بفعالية، وتساهم في الحفاظ على القدرة القتالية والتكتيكية في مواجهة الأعداء الذين يمتلكون تفوقًا عسكريًا جوهريًا، مثل العدو الصهيوني الذي يعدّ أقوى جيش في الشرق الأوسط بفضل قوته الجوية، إضافة إلى الدعم الأمريكي والغربي له على الصعيد العسكري والاستخباراتي والتمويلي بلا حدود.
- الالتحاق بمراتب العظماء والأبطال يمر عبر طريق التضحيات الكبيرة ودفع الأثمان الباهظة، وهذا ما يعلمنا إياه السنوار منذ نعومة أظفاره حتى الثواني الأخيرة من حياته. فقد قضى ثلث حياته في سجون الاحتلال، وبعد خروجه منها واصل طريق النضال والكفاح رغم صعوبته، فاستحق أن ينضم بشرف إلى ركب العظماء من قادة التحرر العالمي، مثل عمر المختار، نيلسون مانديلا، وشي غيفارا، كما جاء في الصورة التي نشرتها صحيفة شبكة القدس الإخبارية.
شبكة القدس الإخبارية تضيف اسم السنوار إلى قائمة قادة وأبطال التحرر التاريخيين
- لقد مر على حركة النضال والمقاومة في فلسطين ضد الاستعمار البريطاني أولاً، ثم الاحتلال الصهيوني ثانياً، أبطال سطروا بدمائهم وكفاحهم ملاحم لن تُمحى من ذاكرة التاريخ إلى يوم الدين. ولكن السنوار يحمل رمزية خاصة بين تلك الأسماء، فهو الرجل الذي هزم الكيان الصهيوني مرتين: الأولى في السابع من أكتوبر عندما أطلق "طوفان الأقصى" وزلزل أركان الدولة الصهيونية بالضربة الاستباقية التي أظهرت للعالم أن هذه الدولة، رغم تفوقها العسكري الرهيب والدعم الأمريكي والغربي، ضعيفة وهشة أمام إرادة وعزيمة الشعب الفلسطيني الصادق في نيل حريته.
أما المرة الثانية، فكانت بعد استشهاده، حيث كان العدو الصهيوني يروّج أن السنوار مختبئ في الأنفاق مع الأسرى الصهاينة، وقد أحاط نفسه بالمتفجرات استعدادًا للانتحار وقتل الأسرى في حال اكتشاف مكانه. ولكن ما حدث كان خلاف توقعاتهم؛ إذ تبين أنه كان فوق الأرض، يقود المعارك بنفسه، ويدخل في الاشتباك كمقاتل وجندي عادي، طالبًا الشهادة والحرية والعيش الكريم بدمه. وشاء الله أن تكون نهايته الشهادة في الصفوف الأمامية، وبشكل أسطوري كما تمنى قبل ثلاث سنوات في ذلك اللقاء الصحفي.
في البداية، كانت فرحة العدو الصهيوني عارمة عندما اكتشفوا عن طريق الصدفة أن المقاتل الملثم بالكوفية الفلسطينية، الذي اشتبك معهم لثلاث ساعات ولم يتمكنوا من القضاء عليه إلا بعد قصف البيت بالمدفعية، هو السنوار. لكن هذه الفرحة لم تدم طويلًا، إذ تحوّل الفيديو الذي أراد العدو من خلاله التباهي بإنجازه إلى ملحمة أخرى. فمشهد السنوار وهو يقاتل العدو حتى اللحظة الأخيرة بعصا بسيطة بات مصدر إلهام وتقدير له على مستوى العالم. وقد استفاق العدو من سكرة نشوة الانتصار على هذه الحقيقة وأراد استدراك هذا الخطأ الاستراتيجي التاريخي عن طريق محاولة منع انتشار مقطع الفيديو، ولكن فات الأوان. وهكذا هزم السنوار العدو مرة ثانية وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة. وهكذا عاش السنوار مجاهدًا مناضلًا من أجل الحق والحرية، واستشهد وهو يقاوم، ليصبح رمزًا نضاليًا وملهمًا للأجيال الثائرة ضد الاحتلال حول العالم.
الشيء الأكثر غرابة في تاريخ هذا البطل الملهم هو السر الخفي الذي يربطه بشهر أكتوبر: وُلد في أكتوبر، وخرج من السجن في أكتوبر، وأطلق عملية "طوفان الأقصى" في أكتوبر، واستشهد وهو ابن 62 سنة في أكتوبر. يكاد المرء يحسد أكتوبر على هذه العلاقة الفريدة والحب العميق الذي يجمعه بالسنوار.
رحم الله بطل أكتوبر الشهيد القائد الملهم أبو إبراهيم وجعل مثواه الفردوس الأعلى.
** الكاتب: أبو مـــــــــــــــــزّمّــــــــــــــــــــــــــــــل مــــــيـــــــــــــــــــــــــــــــغـــــــــــــــا
Be the first to comment .