Sosyal Medya

الثقافة

أزمة الفردانية وتأثيرها على العلاقات الاجتماعية في العصر الحديث

**

في ضوء التحولات المتسارعة التي يشهدها العالم المعاصر، لا سيما مع التطور التكنولوجي والرقمي، ظهرت أزمة تهدد جوهر العلاقات الإنسانية. فقد تحولت الروابط العاطفية والاجتماعية من كونها ركائز أساسية في حياة البشر إلى تجارب عابرة. وترجع هذه الأزمة إلى انتشار الفردانية والنزعة الذاتية التي غيَّرت طبيعة العلاقات، لتصبح قائمة على المصلحة الشخصية والأنانية بدلًا من التعاون والمسؤولية المشتركة. فما العوامل التي أدت إلى هذا التحول؟ وما الذي أسهم في تآكل العلاقات في العصر الحديث؟

 

نشأة وتطور الفردانية: بين الثورة الصناعية والفلسفات الغربية

تُشير النزعة الفردانية، وفقًا لرأي الدكتور مصطفى عاشور، إلى أنها برزت مع ظهور المجتمعات الصناعية. فقد أدت الثورة الصناعية إلى هجرة الأفراد للعمل في المصانع بعيدًا عن أسرهم، مما دفعهم إلى الاعتماد على أنفسهم. وسرعان ما دعمت الفلسفات هذا التوجه، خاصة مع معاناة الإنسان من القيود الاجتماعية المفروضة عليه.

ومع بداية القرن العشرين، لقيت الفردانية - أو ما يمكن أن نطلق عليه الشخصانية - قبولًا وانتشارًا في الفلسفات الأمريكية والفرنسية، حيث تضع قيمة الشخص فوق كل اعتبار، وتعتبره قيمة مطلقة. وقد شجع هذا الاتجاه الأفراد على تبني رؤى مستقلة واتخاذ قراراتهم بناءً على المنفعة الشخصية والمتعة. وقد تعزز انتشار الفردانية بفضل الفلسفات والمذاهب الاقتصادية، خاصة الرأسمالية، بالإضافة إلى الليبرالية والديمقراطية.

لكن المثير للاهتمام أن الفيلسوف الإنجليزي برتراند راسل، في كتابه ما الذي أؤمن به، يرى أن المسيحية ساهمت في تعزيز الفردانية من خلال تركيزها على "الخلاص الفردي" وتجاهلها لدور الإنسان في المجتمع. وقد أدى ذلك إلى أن تصبح المجتمعات الغربية منغلقة على ذاتها وأنانية، حيث تهتم بالمصلحة الشخصية أكثر من اهتمامها بالمجتمع.

ونتيجة لذلك، اتجه الإنسان نحو ذاته، رافضًا الانصياع لأي معايير أو أفكار خارجية، بعد خيبات أمل تاريخية مع الأيديولوجيات الكبرى التي وعدت بالخلاص لكنها أخلفت وعودها: فالقومية كانت وراء اشتعال الحربين العالميتين اللتين حصدتا أرواح عشرات الملايين، والشيوعية كانت سجنًا للإنسان عندما طُبقت، والرأسمالية شجعت على الاستغلال، والتجارب الدينية المتطرفة كانت في أغلبها مخيفة. كل هذه المآسي دفعت الإنسان للثقة في ذاته دون غيرها.

ومع انكفاء كل فرد على ذاته، تفرق المجموع، وأصبح البشر يشجعون كل آلية وفلسفة تفرق بينهم. مما أدى إلى انتشار الأنانية والرغبة في الابتعاد عن المسؤوليات الاجتماعية، ما يظهر في تراجع الزواج وتخلي الأفراد عن دورهم الأسري.

ويمكن الإشارة هنا إلى ما ذكره البروفيسور اليهودي "يوفال نوح هراري" في كتابه "الإنسان الإله: موجز تاريخ الغد"، حيث أشار إلى أن المستقبل سيكون مرتبطًا بعلاقة الإنسان بالآلة، مشيرًا إلى تآكل العلاقات الاجتماعية. يشير هراري إلى أن الدين الجديد "الفردانية" يحل محل المقدسات القديمة، حيث يتم تقديس الفرد بدلًا من الخالق. كما تسعى الفردانية، عبر الليبرالية والديمقراطية، إلى جعل الفرد المرجع في الإنتاج والاستهلاك والحكم. وفي النهاية، يبرز هراري أن حقوق الإنسان أصبحت الأيديولوجيا المسيطرة، مما قد يفقد البشرية معناها ويجعل الكثير من الناس زائدين عن الحاجة بسبب تقدم الآلات.

 

الفردانية والعلاقات العاطفية بين الزوجين:

شهدت العلاقات العاطفية في المجتمعات الحديثة تحولًا جذريًا مع صعود قيم الفردية والحرية الشخصية. فبعد أن كان الزواج يُبنى على قيم التعاون، والتضامن، والمسؤولية المشتركة، بات الآن مشروعًا مؤقتًا يسعى من خلاله الأفراد إلى تلبية احتياجاتهم الذاتية، وبناء أي علاقة قائمة على تحقيق ذواتهم. هذا التحول، على الرغم مما منحه من حرية، جلب معه تحديات جديدة، منها ارتفاع معدلات الطلاق وتفكك الأسر.

وفقًا لعالم الاجتماع زيغمونت باومان، فإن الميل إلى إقامة علاقات عابرة يعكس نوعًا من الهروب من المسؤولية العاطفية والمادية التي كانت ترافق الزواج التقليدي. إذا كان الالتزام العاطفي يُعتبر حجر الزاوية للعلاقات، وكان الناس يتزوجون لدوافع عملية واجتماعية مثل الحاجة إلى شريك للعمل وتكوين أسرة، فقد تحررت الأجيال الجديدة اليوم من تلك الضغوط الاجتماعية. وأصبح لديهم حرية مطلقة في تحديد متى ومع من يرغبون الدخول في علاقة، سواء كان ذلك من خلال الزواج أو العلاقات المفتوحة أو حتى البقاء عازبين.

ومع انتشار هذه الأنماط الجديدة من العلاقات في المجتمع الغربي، تراجع الميل نحو تبني النموذج التقليدي. لذا أصبح الرجال يميلون إلى الابتعاد عن الزواج الرسمي بحثًا عن إشباع رغباتهم دون تحمل الالتزامات الأسرية طويلة الأمد. وفي الوقت نفسه، تأثرت النساء بهذا التحول، ولا سيما في ظل الدعم الذي قدمته الحركات النسوية الحديثة التي عززت مفهوم الاستقلال الذاتي للمرأة. سعت هذه الحركات إلى تمكين النساء من التحرر من الأدوار التقليدية المرتبطة بالزواج والأسرة، وشجعتهن على رفض الالتزامات المجتمعية التي تعتبر الزواج واجبًا اجتماعيًا ودينيًا.

وكان لهذه الحركات تأثير كبير على القوانين والتشريعات المتعلقة بالمرأة، حيث نادت بحقوق الإجهاض والحرية الجنسية. ومع تعزيز الشعور بالفردانية لدى النساء والرجال على حد سواء، ضعفت الروابط التقليدية التي كانت تجمع بين الزوجين ، مما أجج الصراع بينهما وأسهم في تفكيك الأسرة.

 

دور الإعلام والتكنولوجيا في تعزيز الفردانية:

يشكل الإعلام والتكنولوجيا، عبر منصات متنوعة مثل السينما، التلفزيون، والإنترنت، قوة كبيرة في تشكيل القيم والوعي الاجتماعي المعاصر. فالإعلام، سواء برسائله الإيجابية أو السلبية، يعمل كسلاح ذي حدين، إذ يمكنه تعزيز وترسيخ القيم الاجتماعية السليمة، أو أن يساهم في هدمها. من هذا المنطلق، تعاظم تأثير الإعلام والتكنولوجيا على الهوية الفردية في المجتمع، حيث تروج وسائل الإعلام لنمط حياة قائم على المتع الفردية والشهرة، مما يغرس في ذهن الجمهور فكرة أن السعادة تتحقق من خلال تحقيق الذات والاستهلاك المفرط، مما يعزز ثقافة النرجسية والاهتمام بالذات على حساب المصلحة العامة والعلاقات الاجتماعية.

كما يشير الدكتور مصطفى عاشور في مقالته "الفردانية وأزمة الإنسان المعاصر" إلى أن الدكتور عبد الوهاب المسيري يعتقد أن الشعور المتزايد بالقوة لدى الأفراد يعزز الميل نحو الفردية والاستقلال. ورغم مزايا التكنولوجيا، فإنها تزيد من الشعور بالقوة والإنجاز، مما يعمق الفردانية داخل الأسرة، حيث يعيش الأفراد في عزلة رغم وجودهم تحت سقف واحد، معتمدين على تكنولوجيا الاتصال بدلاً من التواصل المباشر. لم يعد التجمع حول التلفاز يحدث كما كان سابقًا، بل أصبح كل فرد يميل للعزلة في غرفته مع اعتمادهم على الهواتف المحمولة كبديل للتواصل، مما يؤدي إلى تحلل العلاقات الإنسانية وانهيار قيم الأسرة.

وتشير "شيري توركل"، في كتابها "معًا بمفردنا"، إلى أن التكنولوجيا أصبحت تقوم بهندسة علاقاتنا الاجتماعية. فالإنسان، على صفحته على مواقع التواصل الاجتماعي، له مئات بل آلاف الأصدقاء، لكنه ربما يفشل في إدارة علاقاته داخل أسرته، وهو ما يقود إلى عزلة كبيرة. فالتكنولوجيا تملأ فراغ الإنسان، لكن البشر غير قادرين على البقاء بمفردهم، وكذلك لا يستطيعون البقاء معًا. وأمام هذا التناقض، جاء الموبايل ليقدم حلاً، ولكنه حلاً تدميريًا للعلاقات الإنسانية، ما يجعل الأفراد غير قادرين على التواصل الفعلي مع الآخرين، ويدفع العلاقات الإنسانية نحو التفكك والانهيار.

 

العلاقات الاجتماعية في عصر الفردانية:

مع ظهور الحداثة، أعلت فلسفة الحداثة من قيمة الفرد وقلّلت من دور الكيانات الاجتماعية، مما أسهم في انتقال الفرد من المجتمع التقليدي إلى الحديث، حيث دعمت تحرره واستقلاله. ظهرت النزعة الفردانية في أوروبا خلال القرن الثامن عشر كجزء أساسي من القيم الأوروبية والليبرالية، حيث أكّد الفيلسوف توماس هوبز دعم الحداثة لتحرر الفرد من القيود.

تُرتبط الفردانية بالفكر الليبرالي الذي يركز على حرية الفرد واستقلاله باعتبارهما قيمتين أساسيتين. تناول علماء الاجتماع، مثل لويس دومون، الفرد كعنصر محوري في المجتمع، مشيرين إلى أن المجتمعات الغربية أولت اهتماماً أكبر بالفرد مقارنة بالكيانات الاجتماعية الكبرى.

يؤكد الفكر الليبرالي أن الفرد هو أساس المجتمع، وأن حقوقه تسبق وجود المجتمع نفسه. ومع انهيار النظام الإقطاعي في أوروبا، تطورت فكرة الفرد وأصبحت جزءاً من البنية الاجتماعية، وازدادت حرية اختياراته. عزز عصر النهضة هذا الاتجاه، واكتمل بإعلان حقوق الإنسان.

الفكر الليبرالي ليس دعوة إلى الحرية فحسب، بل هو أيضاً دعوة إلى الفردانية، حيث يُعتبر الفرد عقلانياً وقادراً على تحديد مصلحته. ومع ذلك، يجب أن تُحترم حرية الفرد ضمن إطار القوانين والمصلحة المجتمعية. ويرى المفكرون أن العقلانية هي الموجه الأساسي للفردانية في الفلسفة الليبرالية.

في ظل تنامي النزعة الفردانية، يُلاحظ تزايد ميل الأفراد نحو العزلة وتقليل الاهتمام بالروابط الاجتماعية والأسرية، وهو ما يُشكّل تهديداً للتماسك المجتمعي. فالعائلة، التي كانت سابقاً الركيزة الأساسية للتفاعل الاجتماعي، تتراجع في قيمتها ومكانتها. العلاقات بين الأفراد باتت تتركز بشكل كبير على المصالح الشخصية، حيث يسعى كل طرف إلى استغلال الآخر لتحقيق حاجاته، سواء كانت مادية أو عاطفية.

ومع مرور الوقت، تصبح هذه العلاقات معرضة للتفكك، خصوصاً عندما يشعر أحد الأطراف بأن الآخر لم يعد يلبي متطلباته أو بدأ في المطالبة بتقليل هذا الاستغلال. هذا التوجه يؤدي إلى تآكل الثقة المتبادلة، مما يهدد استمرارية العلاقات ويُضعف الأسس التي كانت تعتمد عليها الروابط الاجتماعية.

 

البحث عن الحل – إعادة ضبط للبوصلة

في ظل التحديات العاطفية والاجتماعية التي أفرزتها النزعة الفردية المتطرفة في المجتمعات الحديثة، يقدم الإسلام رؤية متكاملة للحياة الإنسانية، تجمع بين حقوق الفرد وواجباته تجاه نفسه، مجتمعه، وخالقه. تتجاوز هذه الرؤية القيم المادية المحدودة لتقدم نظامًا شاملًا يعزز التوازن بين الفرد والجماعة، ويؤكد على الأبعاد الروحية والأخلاقية التي تنظم العلاقات الإنسانية.

يبدأ الإسلام بتأسيس العلاقة مع الله كجوهر أساسي ينظم باقي العلاقات. فالبعد الروحي يمنح الفرد إطارًا أخلاقيًا يوجه سلوكه نحو التوازن بين حقوقه الشخصية ومسؤولياته تجاه الآخرين. هذا الإطار يمنع انحراف الإنسان نحو الأنانية، ويعزز بدلاً من ذلك التعاون والتكافل، مما يساهم في بناء مجتمع متماسك يقوم على مبادئ العدالة والاحترام المتبادل.

يعتبر الإسلام الإنسان خليفة لله في الأرض، مكلفًا بمهمة إعمارها وفق منهج إلهي، حيث يعد العمل والإنتاج والإبداع جزءًا من مسؤولياته تجاه تحقيق السعادة للمجتمع ككل. العبادة في الإسلام لا تقتصر على الشعائر الدينية، بل تمتد لتشمل كل عمل يساهم في إصلاح النفس والمجتمع. فالإسلام يرى في العلم، والعمل، وتهذيب النفس وسائل لتحقيق التكامل بين الجوانب المادية والروحية للحياة.

ترتكز هذه الرؤية على ثلاثة أركان أساسية تشكل منظومة الحياة الإسلامية:

  1. معرفة الله وعبادته:الإسلام يعتبر العلم وسيلة لفهم الخالق واكتشاف الكون، ولذلك فإن طلب العلم يُعد عبادة، سواء كان علمًا شرعيًا أو دنيويًا، ما دام يساهم في معرفة الله وتحقيق غاياته.
  2. عمارة الأرض:الإنسان مستخلف لإعمار الأرض وتطويرها، فالعمل الجاد والإنتاج يُعتبران عبادة تحفز المسلم على الإسهام الإيجابي في بناء المجتمع وتطويره.
  3. تزكية النفس:الإسلام يدعو إلى تهذيب النفس باستمرار، وهذا يشمل الجوانب الروحية والأخلاقية والجسدية، في إطار تحقيق الانسجام بين العقل والقلب والجسد.

من خلال هذا النظام المتكامل، يهدف الإسلام إلى بناء مجتمع يحقق التوازن بين الفرد والجماعة، ويؤكد على أهمية تحرير الإنسان من عبودية الشهوات والأنانية، ليعيش في إطار من الكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية. بهذه الرؤية الشاملة، يقدم الإسلام نموذجًا يواجه تحديات النزعة الفردية في العصر الحديث، ويرسي قواعد مجتمع يقوم على الإيمان والأخلاق، ويحقق التوازن بين الحقوق والواجبات

.

 

**بقلم :أمينة جمعة القاسم

Be the first to comment .

* * Required fields are marked