Sosyal Medya

الثقافة

هوس الجمال في عصر العولمة

في ظل هذه الضغوط المتزايدة التي تفرضها معايير الجمال المثالي، تبرز ضرورة إعادة بناء مفهوم الجمال وإعادة تعريف القيم التي تمنح الإنسان معنى حقيقيًا بعيدًا عن المظاهر السطحية في عصر العولمة. ويبدو أن الاستناد إلى فلسفة الجمال في الإسلام يمكن أن يسهم في إعادة ضبط هذا المفهوم وضمان توازنه.

***

 

إن حب الجمال جزء من الطبيعة الإنسانية؛ فالإنسان بفطرته يتطلع إلى الإعجاب بكل ما هو جميل في مختلف مظاهره. ومع ذلك، قد يتحول هذا الميل الطبيعي إلى هوس مبالغ فيه. فمن المعروف أن لكل ثقافة معاييرها الخاصة بالجمال، التي تبدو أحيانًا غريبة أو حتى ضارة. وتتأثر هذه المعايير بعوامل تاريخية واجتماعية وسياسية واقتصادية، بل وحتى دينية.

على سبيل المثال، في مصر القديمة، كان الجمال يُرى كصفة إلهية؛ حيث اعتُبرت الملكة نفرتيتي رمزًا للجمال المثالي بملامحها المتناسقة وعنقها الطويل. أما في اليونان القديمة، فقد اعتُبر الجمال تجسيدًا للتوازن والانسجام، وكان يُعبر عنه من خلال التماثيل التي أظهرت الأجسام البشرية في أفضل حالاتها، مركزةً على النسب المثالية.

ومع مرور الزمن، تطورت معايير الجمال لتعكس التحولات الثقافية والاجتماعية. في أوروبا العصور الوسطى، ارتبط الجمال بالنقاء الروحي، حيث اعتبرت النساء ذوات البشرة الفاتحة والشعر الأشقر مثيلات للجمال. وفي الثقافات الشرقية كالصين واليابان، كان الجمال يُعبر عن البساطة والانسجام مع الطبيعة، حيث اعتُبرت البشرة الناعمة والشعر الأسود اللامع رمزًا للهدوء والسكينة.

ومع دخول العصر الحديث، بدأت معايير الجمال تتأثر بالتحولات الاقتصادية والسياسية. في القرن العشرين، ساهم الإعلام في تشكيل مفاهيم جديدة للجمال، لتصبح الرشاقة والنحافة من المعايير الأساسية للجمال في الثقافات الغربية، حيث باتت هذه الصفات ترمز للنجاح والتحكم الذاتي.

وفي العقود الأخيرة، تنوّعت معايير الجمال بشكل كبير نتيجة العولمة وازدياد التواصل الثقافي. ومع انتشار التكنولوجيا الرقمية وتطبيقات الذكاء الاصطناعي، أصبح بالإمكان تعديل الملامح بلمسة زر عبر الفلاتر وتطبيقات تعديل الصور، مما عزّز مفهومًا غير واقعي للجمال وأثّر سلبًا على ثقة الأفراد بأنفسهم. وقد أتاح هذا الوضع الفرصة لشركات التجميل لاستغلال هذه المشاعر عبر استراتيجيات تسويقية تخلق شعورًا بالنقص، وتحفّز الأفراد على شراء منتجات توهِمهم بأنها ستمنحهم الجاذبية المنشودة. وساهمت هذه الإعلانات في ترسيخ فكرة أن المظهر الطبيعي غير كافٍ، ما فرض ضغطًا متزايدًا، خاصة على النساء، للامتثال لمعايير "الجمال المثالي". وعزّز هذا التوجّه الرغبة لدى الأفراد في محاكاة تلك الصورة، خصوصًا من خلال تسويق شخصيات شهيرة، مثل الفنانين وعارضات الأزياء، كأيقونات للجمال المثالي. ومع تزايد شعبية المسلسلات والأفلام الكورية الجنوبية وفرق البوب الكورية(K-pop)، أصبحت معايير الجمال أكثر تطرفًا، حيث باتت الملامح الصغيرة والوجه النحيف رموزًا محببة.

في ظل هذه الضغوط المتزايدة التي تفرضها معايير الجمال المثالي، تبرز ضرورة إعادة بناء مفهوم الجمال وإعادة تعريف القيم التي تمنح الإنسان معنى حقيقيًا بعيدًا عن المظاهر السطحية في عصر العولمة. ويبدو أن الاستناد إلى فلسفة الجمال في الإسلام يمكن أن يسهم في إعادة ضبط هذا المفهوم وضمان توازنه.

 

تصحيح المسار:

تقدم تعاليم الإسلام منهجًا متوازنًا للحياة يربط بين الدنيا والآخرة، ويركز على جميع جوانب حياة الفرد والمجتمع؛ إذ يوازن بين حاجات الجسد والعقل والروح، ويسعى إلى بناء شخصية المسلم المتكاملة. لذلك، نجد الإسلام يحث على النظافة الشخصية والاهتمام بالمظهر، مثل الاستحمام، وتنظيف الأسنان، واستخدام العطور، وقص الأظافر، وارتداء الملابس النظيفة، والاهتمام بالهندام، لما لذلك من أثر إيجابي في تعزيز التواصل الاجتماعي والتفاعل البناء.

كما يولي الإسلام اهتمامًا خاصًا بالمظهر في أماكن العبادة والتجمعات، حيث قال الله تعالى: "يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد"تأكيدًا على أهمية التزين في أماكن العبادة. وقد حرص النبي ﷺ على توجيه المسلمين لتحسين رائحة الفم عند اللقاء بالناس؛ فقد ورد النهي عن أكل الثوم والبصل والكراث عند الاقتراب من المساجد، لأن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم، كي لا يتأذى من حوله بذلك.

وعلى مستوى الأسرة، يحث الإسلام الزوجين على التزين لبعضهما البعض، مما يعكس المودة والاحترام المتبادل، وذلك استنادًا لقوله تعالى: "وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ"(النساء: 19)، و "وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ"(البقرة: 228). فالمعاشرة بالمعروف حق لكل منهما على الآخر، ومن المعروف أن يتزين كل منهما للآخر، فكما يحب الزوج أن تتزين له زوجته، كذلك الحال بالنسبة لها؛ تحب أن يتزين لها. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: "إني لأحب أن أتزين للمرأة كما أحب أن تتزين لي."

هكذا أراد الإسلام أن ينشئ أمة قوية تعتني بالجمال الخارجي والداخلي، فالاعتناء بالجسد جزء من الدين تُؤجَر فيه المرأة على اهتمامها وفق الضوابط الشرعية، كما يُؤجَر فيه الرجل، دون إسراف أو تقتير.

وعلى الصعيد الشخصي، جاء حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي ﷺ قال: "من كان له شعر فليكرمه". كما نصح سلمان الفارسي أبا الدرداء بقوله: "إنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، ولِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، ولِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ"، فأقرّه النبي ﷺ.

يدعو الإسلام إلى الاهتمام بالمظهر الخارجي دون إسراف أو مغالاة، ويحذر من الانسياق وراء تقليد الآخرين أو التباهي. قال النبي ﷺ: "وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ". وللأسف، نشهد اليوم ظاهرة إفراط العديد من النساء والفتيات في تغيير ملامحهن، سواء بالمبالغة في استخدام مساحيق التجميل أو بالخضوع لعمليات التجميل، مما أثر على أدائهن لأدوارهن الأساسية في المجتمع. كما أن هذه الممارسات تخفي جمالهن الحقيقي وتهدر الوقت، ما يمنعهن من التركيز على دورهن في البناء الحضاري لأمتهن.

أما الجراحات التجميلية، فقد أجاز الإسلام منها ما كان لإزالة العيوب الخلقية أو آثار الحوادث، باعتبارها ضرورة وليس تغييرًا لخلق الله.

ولا بد من التنبيه إلى أن التجمُّل الخارجي لا يتنافى مع الزهد؛ لأن الزهد الحقيقي يكون في القلب، وليس في مظهر الإنسان الخارجي، وذلك بشرط تجنّب الإسراف والمفاخرة على الناس. فقد روى الإمام مسلم عن عبد الله بن مسعود عن النبي ﷺ أنه قال: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كِبْر"، فقال رجل: "إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنًا ونعله حسنة"، فقال النبي ﷺ: "إن الله جميل يحب الجمال".

ولأن الله تبارك وتعالى يحب الجمال، فإن المسلم يتجمّل حبًّا لله سبحانه وتعالى، دون التعلّق أو التمسك بالمظاهر الخارجية. فمن يتجمل عليه ألا يُسرف أو يتباهى بما لديه، وينبغي أن يكون زاهدًا، غير متعلق بما يملك. وقد تضمنت السُّنة أيضًا العناية بالمظهر، مثل قص الشارب، وتقليم الأظفار، وإعفاء اللحية، والخضاب. جاءت هذه التوجيهات لتبيّن أن الإسلام يحث على الاعتناء بالمظهر والجمال، مع التزام الحدود الشرعية. وقد كان الصحابة، رغم تواضع حياتهم في بداية الإسلام، يمتلكون بعد الفتوحات ما يزينهم من حسن الاعتناء بالمظهر واللباس والمساكن، دون أن يؤثر ذلك في تقواهم أو يعكّر زهدهم.

تساعد هذه الرؤية المتوازنة المسلم على التحرر من معايير الجمال السطحية التي يروج لها الإعلام المعاصر، والتي تصور الجمال كأنه معيار لقيمة الإنسان، مما قد يؤثر سلبًا على الرضا النفسي، ويضع معايير غير واقعية. فعلى سبيل المثال، قد تشعر المرأة بأن مكانتها المجتمعية مرتبطة فقط بمظهرها الخارجي، مما يسبب ضغوطًا نفسية واجتماعية غير صحية تمنعها من التركيز على دورها في البناء الحضاري لأمتها.

تتركّز الفلسفة الإسلامية للجمال على أن قيمة الإنسان لا تكمن في مظهره فقط، بل ترتبط أساسًا بأخلاقه وأفعاله الصالحة، مشدّدةً على أهمية التوازن بين الجمال الداخلي والمظهر الخارجي. ومن الجدير بالاهتمام عدم التغافل عن الحملات الإعلامية التي تستهدف وعي المسلمين، وتسعى لطمس رؤيتهم حول الوجود والحياة؛ لذا ينبغي إعادة بناء منظومتهم المعرفية، خاصة مع تزايد التحديات الثقافية والاجتماعية التي تهدد هويتهم وقيمهم. إذ يعيش الجيل الحالي، بما فيهم الأطفال، تحت وطأة هذه المعايير، مما يتطلب من الأسرة دورًا في تنظيمها. ومن هنا تبرز أهمية تناول دور الأسرة في بناء مفهوم الجمال لدى الأطفال في المقال القادم.

 

 

     **بقلــــــــــم : أمينة جمعة القاسم 

Be the first to comment .

* * Required fields are marked