السياسة
جزر شاغوس : قصة اغتصاب

**
هل يمكننك أن تتخيل أنه في يوم من الأيام يأتي شخص لم تقابله قط إلى منزلك. فيستولي علىه ويخرجك منه ويجبرك على الانتقال إلى مكان آخر. ليس هذا فحسب، بل يؤجر منزلك لشخص آخر! وعندما تذهب إلى المحكمة للمطالبة بحقوقك، يكون المدعي العام هو الغاصب والقاضي هو المستأجر. في النهاية، عليك أن تعقد صفقة معهم من أجل استخدام حديقة منزلك الخاص!
قد تقول: " لا يمكن أن يحدث هذا الشي !"، أليس كذلك؟ ولكن وللأسف الشديد يحدث ذلك وأمام مرأى ومسمع القانون الدولي وتحت مظلة حمايته. ربما تفكرون الأن في فلسطين كمأساة مماثلة... لكن هذه المرة نحن نتحدث عن مكان مختلف تماماً وهي القصة الحزينة لجزر شاغوس في المحيط الهندي.
بداية الاحتلال
يعود تاريخ طمع البريطانيين في جزر شاغوس التي تبعد عنهم آلاف الكيلومترات إلى فترة الإمبراطورية البريطانية. فقد أصبح من عادة الأوروبيين السفر عبر البحار والقارات واغتصاب أراضي الآخرين. علاوة على ذلك، من المعروف أنهم كانوا يتشاجرون أحيانًا أثناء تقاسم هذه الأراضي المغتصبة فيما بينهم.
في واقع الأمر، بدأ الفرنسيون أنشطتهم الاستعمارية في المحيط الهندي منذ منتصف القرن السابع عشر، واستقروا أولاً في جزيرتي ريونيون وموريشيوس. وفي سبعينيات القرن الثامن عشر، أعطوا الإذن لشركات مختلفة باستغلال زيت جوز الهند في جزر شاغوس. ولكن، مع المعاهدة التي أُبرمت بعد هزيمة نابليون في واترلو عام 1815، تُركت هذه الأراضي لبريطانيا. وهكذا، تم إعلان جزر شاغوس مستعمرة بريطانية كجزء من موريشيوس.
في الستينيات، بدأت المستعمرات البريطانية في الحصول على استقلالها واحدة تلو الأخرى. وكانت "الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس" على وشك الانكماش. وفي هذه العملية، طالبت موريشيوس أيضًا بالاستقلال. ومع ذلك، أضافت بريطانيا شرطًا إلى طلب الاستقلال هذا وهو: الاحتفاظ بالسيطرة على جزر شاغوس.
يتكون المكان الذي نطلق عليه جزر شاغوس من مجموعة من الأرخبيلات وكان يقطنه حوالي 2000 نسمة في ذلك الوقت. ولكن بالنسبة للناس هناك لم تكن تشاغوس مجرد مكان، بل كانت موطنهم الوحيد، فقد ولد أجدادهم وترعرعوا في هذه الأرض. اشتهرت الجزر بجمالها الطبيعي وثرائها، فقد كانت جنة بمناخها الاستوائي وجوز الهند وأنواع الطيور والأسماك الغنية.
إلا أن ما جعل جزر شاغوس جذابة للبريطانيين لم يكن جمالها الطبيعي بل كان موقعها الاستراتيجي. فقد كانت تتوسط الشرق الأوسط وجنوب آسيا وشرق أفريقيا، وهي نقطة عسكرية بالغة الأهمية. وكان هذا هو السبب الرئيسي الذي أبهر البريطانيين.
إخلاء الجزر
منذ منتصف الستينيات وما بعدها بدأ تنفيذ خطة مروعة للإخلاء القسري لشعب شاغوس. ففي المراسلات الداخلية للحكومة البريطانية، تلفت الانتباه رسالة كتبها باتريك رايت، الذي كان يعمل سكرتيرًا في مكتب الكومنولث في ذلك الوقت، إلى دينيس غرينهيل، رئيس مكتب المستعمرات. تضمنت الرسالة العبارات التالية "علينا بالتأكيد أن نكون صارمين للغاية في هذا الأمر. فالغرض من هذه العملية هو الحصول على بعض الصخور التي ستبقى لنا؛ ولن يكون هناك سكان أصليون باستثناء النوارس التي لا توجد لها لجنة حتى الآن".
على الرغم من وجود عشرات الجزر في أرخبيل شاغوس، إلا أن هنالك ثلاث جزر (دييغو غارسيا وبيروس بانهوس وسالومون) كانت تعيش فيها مجتمعات مختلفة بسلام لسنوات. ومع ذلك، جاء يوم مظلم في العام 1971. أُجبر فيه الناس فجأة على مغادرة منازلهم. وكان الهدف من ذلك هو بناء قاعدة عسكرية للولايات المتحدة الأمريكية.
كانت تلك الفترة من أشد فترات الحرب الباردة، حيث عرضت بريطانيا تأجير جزيرة دييغو غارسيا، أكبر جزر الأرخبيل، للولايات المتحدة لمدة 50 عاماً لإقامة قاعدة عسكرية. وفي مقابل هذا الإيجار، منحت الولايات المتحدة بريطانيا خصمًا قدره 14 مليون دولار على بيع أنظمة صواريخ بولاريس.
في عام 1977، افتتحت القاعدة العسكرية في دييغو غارسيا بمدرج طوله 3,600 متر حيث يمكن لطائرات الشحن العسكرية الكبيرة الإقلاع والهبوط بسهولة. تحتوي القاعدة أيضاً على ميناء يمكن أن ترسو فيه حاملتا طائرات تابعة للبحرية الأمريكية في نفس الوقت. وقد تمركزت هنا القاذفات الأمريكية بعيدة المدى التي قتلت آلاف الأشخاص في حربي العراق وأفغانستان.
قاذفات من طراز B-1Bلانسر تقلع من قاعدة دييغو غارسيا خلال قصف أفغانستان في نوفمبر 2001
هذه القاعدة، التي تضم 2,500 جندي أمريكي، هي موضوع الكثير من التكهنات. وكثيراً ما تثار عنها مزاعم خطيرة مثل الاختطاف و"المواقع السوداء" ومراكز التعذيب. حتى أنه تم التلميح إلى أن القصة المتعلقة برحلة الخطوط الجوية الماليزية MH370، التي اختفت في 8 مارس 2014، قد تكون مرتبطة بهذه القاعدة. في عام 2009، كتب الكاتب الأمريكي ديفيد فاين عن الجانب المظلم للجزيرة في كتابه "جزيرة العار".
نضال العودة إلى الوطن
وعلى الرغم من كل هذه الأحداث، يريد شعب شاغوس العودة إلى أرضهم. فعلى مدى السنوات العشرين الماضية، كانوا في صراع قانوني مع المملكة المتحدة للعودة إلى وطنهم. وحقيقة أن المملكة المتحدة منحت الجنسية لبعضهم لم تمنع استمرار نضالهم.
في عام 2000، وبالرغم من حكم المحكمة العليا في إنجلترا بأن شعب تشاغوس يمكنه العودة إلى الجزر الــــــــ 65، ولكن ليس إلى دييغو غارسيا، أكبر الجزر وأكثرها قابلية للسكن، إلا أنه في العام 2004، نقضت الحكومة البريطانية هذا القرار فعلياً من خلال التذرع بالامتياز الملكي.
في عام 2019، صوتت الأمم المتحدة على إنهاء استعمار جزر شاغوس. ولكن، وكما يقال "الكلب يعوي والقافلة تسير"، لم يصوت ضد هذا القرار سوى المملكة المتحدة والولايات المتحدة وإسرائيل وأستراليا والمجر وجزر المالديف. وامتنعت 55 دولة أخرى، بما في ذلك فرنسا وألمانيا عن التصويت. وبالنظر إلى ازدواجية المعايير في السياسة الدولية، فإن هذا التصويت لا يعني الكثير. لأن بريطانيا، العضو الدائم في مجلس الأمن الدولي، لم تعترف بهذا القرار واستمرت في المطالبة بالسيادة على الجزر.
ومع استمرار هذا الصراع القانوني، وأخيرًا في العام 2020، بدأت المملكة المتحدة عامين من المفاوضات مع موريشيوس. في بيان صحفي مشترك بين المملكة المتحدة وموريشيوس، أُعلن في 3 أكتوبر 2024، أن نقل المملكة المتحدة السيطرة على جزر شاغوس إلى موريشيوس كان "اتفاقًا تاريخيًا". ومع ذلك، ذُكر أن هذا النقل سيستمر لمدة 99 عامًا مع خيار القواعد العسكرية والتجديد. وستتمكن موريشيوس من بدء برنامج إعادة التوطين في جزر شاغوس، ولكنها لن تتمكن من تطبيق هذا البرنامج على جزيرة دييغو غارسيا.
وعلى الرغم من أن هذه الاتفاقية قد تصدرت عناوين الصحف العالمية وتم الاحتفاء بها في بعض الأوساط، إلا أنها في الواقع لم تجلب سوى القليل من التغيير. علاوة على ذلك، فإن شعب شاغوس لم يكن حتى طرفًا في هذه الاتفاقية. فبعد شهر واحد فقط من توقيع الاتفاقية، أعلن رئيس الوزراء الجديد، نافينتشاندرا رامغولام، أنه سيراجعها، متهمًا الحكومة السابقة ببيعها.
إن قصة شعب شاغوس ما هي إلا دليل آخر على استمرار ظلم ما يسمى بالقوى العظمى. عندما يحاول هؤلاء الضحايا النضال من أجل حقوقهم، تعمل وسائل الإعلام ضدهم وتصفهم بالإرهابيين. بالرغم أن ما يسمى بالقوى العظمى هم أنفسهم قطاع الطرق في الواقع. وكما يقول الله تعالى : " وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَٰكِن لَّا يَشْعُرُونَ "(البقرة 2: 11-12).
ومن المثير للاهتمام أن المملكة المتحدة لا تزال تمارس سيادتها على 14 إقليماً بريطانياً فيما وراء البحار، ومعظمها يضم عدداً كبيراً من الجزر ولكل منها تقريباً قصته المثيرة للاهتمام. فماذا يفعلون بهذه الأقاليم؟
** الكاتب: موسى أديبايو
** المترجم: علي محمدنور
Be the first to comment .