الصفحة الرئيسية
حب البحار البعيدة
"لا تعلموا الشباب صناعة السفن، بل علموهم حب ركوب البحار البعيدة؛ لأنهم إذا أحبوا ذلك صنعوا لأنفسهم أساطيل"
الكاتب: كمال تكدن
المترجم: مدثر مودا
مــــــــــــــن هــــــــو خِـــضْـــــــــــــــر؟[1]
"كل من بعث الأمل في قلبك اليائس فهو خِضْر بالنسبة لك".
لقد استوقفني كلام أحد الكتّاب الغربيين الذي يقول: "الناس في هذا العصر مثل جامعي المفاتيح، لديهم الكثير من المفاتيح ولكنهم لا يعرفون المفتاح المناسب للباب المناسب". في الواقع، النظام التعليمي اليوم يجعل الإنسان "حاملا للمعرفة" ولكنه لا يعرف إذا كانت تلك المعرفة مفيدة له أم لا، ومتى وكيف يستخدم تلك المعرفة؟! لأن المعلومات النظرية التي تقدم للشخص لن تفيده في شيء عند الاحتكاك بالحياة العملية.
حسب دراسة أجرتها جامعة جون هوبكنز على 7948 طالب حول الأشياء الهامة في حياة الشباب. في الوقت الذي كان فيه جواب %16 منهم "المال الكثير" كان جواب %78 منهم "البحث عن هدف وشيء ذي معنى في الحياة" لأن هذا هو ما ينقصهم في حياتهم. هذه الدراسة نفسها أجريت في فرنسا، فكانت النتيجة %89 من الطلاب ذكروا أنهم يريدون أن يكون لديهم "هدف وغاية يعيشون ويموتون من أجله". أنا أعتقد أن مجرد الشعور بهذا النقص شيء عظيم، لأن هذا الإحساس ضروري حتى لا يفقد الإنسان الثقة في نفسه وفي المستقبل. فهذه الجامعات التي أجرت تلك الدراسات تعتبر أرقى المؤسسات التعليمية في العالم. فبغض النظر عن نوع التعليم الذي يتلقاه الشخص هناك فإن أي شخص ليس لديه هدف مستقبلي في حياته لن يكون لديه دافع قوي لفعل شيء ما. ولذلك كثرت في الآونة الأخيرة الوسائل وقلت الأهداف.
حسب بعض الدراسات فإن مواليد عام 2000م الذين يُسمَّون بجيلZهم الجيل الأكثر تشاؤما وبؤسًا. ويعود السبب في ذلك إلى التزكير الجاد على المشاكل ومشكلة الاستمرارية لها وفقدان الشعور الديني، وبالتالي عدم وجود توقعات وأهداف واضحة في حياتهم هو السبب الرئيس في ذلك الخوف والبؤس لهذه النوعية من البشر، لأن الشخص الذي لا هدف له لن يكون بمقدوره اختيار الوسيلة المناسبة.
فالاعتقاد السائد في هذا الموضوع أن الهدف الأسمى يعطي الإنسان الحد الأقصى من الأمل في الحياة، كما يعطيه في نفس الوقت نشاطًا وقوةً يتمسك بهما لإضافة أي قيمة لحياتهم، لأن الناس يقدّرون بما يحملونه من أفكار وأهداف. يقول و. اروينغ: "الناس العظماء يملكون أهدافًا، بينما الوضعاء يعيشون أنانيين طماعين". فالشخص الطماع أناني يسعى دائما لمصلحته الشحصية؛ وعلى هذا فحب الناس وتقييمهم لشخص ما يكون على قدر ما يبذله ذلك الشخص لخدمة الأخرين. وهذا النوع من الخدمات يدخل ضمن الأهداف العليا والـمُثُل السامية.
فالهدف يجعل صاحبه نشيطًا وجادًا وقويًا ومقاومًا لكل الصعوبات، وفي هذا يقول الطبيب النفسي والكاتب النمساوي فيكتور فرنكل في كتابه: "بحث الإنسان عن الهدف أو القيمة" وهو يحكي عن كفاحه في حياته، يقول: "إنه قد اعتقل في أحد المعسكرات النازية، وقام الجنود النازيون بإتلاف الكتاب الذي كان يؤلفه وإلقائه في المزبلة. ومنذ ذلك الحين كان همه الوحيد إعادة تأليف ذلك الكتاب. وهذا الشعور أكسبه قوةً لتحمّل كل الصعاب في ذلك المعسكر النازي الذي يعيش فيه المعتقلون أوضاعًا مأساوية قلّ نظيرها. خلال سنوات الاعتقال مات قرابة %95 من المعتقلين، ولكن فيكتور كان بين أولئك القلائل الذين نجوا من ذلك المعسكر النازي. والسبب الوحيد الذي زرع فيه أمل البقاء في الحياة -كما يقول- هو ذلك الحلم الراسخ في عقله والمتمثل في ضرورة إعادة تأليف ذلك الكتاب.
وقد ثبت في مجال التعليم أيضًا أن الشباب ذوي الأهداف يقومون بالواجب على أكمل وجه دون الحاجة إلى إكراههم أو إرغامهم. ولقد أعجبني قول أحد الكتّاب: "لا تعلموا الشباب صناعة السفن، بل علموهم حب ركوب البحار البعيدة؛ لأنهم إذا أحبوا ذلك صنعوا لأنفسهم أساطيل". وهذا الحب هو المفقود عند كثير من شبابنا اليوم وخاصة في مجال التعليم. هناك مثل شعبي يقول: "إذا عُدم الحب والرغبة عُدِم التعلم". وبالتالي يجب أن يكون هناك حب لعملية التعلم، فإذا كان الشخص محبًا للشيء فإنه يبذل قصارى جهده لتعلُّمه دون الحاجة إلى الإكراه، وفي الوقت نفسه سيقوم بتطبيق ما تعلمه على أرض الواقع بكل حب وإخلاص.
والجميل في الأمر أن الإنسان يكون في عبادة عندما يطبق ما تعلمه خدمة للناس ونفعًا لهم. وهذا ما قصده أحمد حمدي تانبنار بقوله: "إن ما يقوم به الفنان أو المهندس المسلم ليس مهنة فقط، وإنما هو عبادة". فعلى سبيل المثال: عندما كان المعماري المسلم الكبير معمار سنان يبني جامع السليمانية وجامع السليمية وغيرهم من تلك الآثار التاريخية البديعة، إنما كان يبنيها بشعور أن هذا العمل عبادة وتقرب إلى الله تعالى.
فكل من يقصد بعمله خدمة الإنسانية والتقرب إلى الله يكون في عبادة، فالطبيب الذي يداوي المرضى؛ والمدرس الذي يدرس طلابه ابتغاء وجه الله يكونان في عبادة الله؛ وهذا هو معنى العبادة لمدة 24 ساعة. وفي هذا الصدد يقول نور الدين طوبجو: "العالم أو المعلم يجب أن يكون قدوة"، لأنه بذلك يكون سببًا لرفع معنويات طلابه أو من هم حوله، ويكون أيضًا وسيلة لتزويدهم بالمعرفة التي ستفتح آفاقهم المعرفية ليكونوا أناسًا عالمين ومؤثرين. فعندما يكون المعلم مبتهجًا؛ يصبح كذلك طلابه الذين يخاطبهم سعداء، لأنه محب لعلمه ومتفانٍ في أدائه بحقه، يقول أحد معلمي مادة الفلسفة: "ما أسعدني! إنني أقوم بوظيفة التدريس في المجال الذي أعشقه، وإلى جانب ذلك أكتسب راتبًا لما أقوم به". وحسب ملاحظاتي فإن كل كبار الشخصيات الذين ساهموا في الإثراء المعرفي ؛كانوا من ذوي الأهداف العالية ومن الذين يتفانون في خدمة ما يؤمنون به بكل حب وإخلاص.
والتاريخ شاهد على السعادة والأعمال الجيدة التي أنجزها أولئك الشباب الذين تلقوا المثل الاجتماعية والدينية؛ بمثل هذا النوع من الحب. فأمثال هؤلاء الشباب يكونون أحرارًا ومستقلين دائمًا في اتخاذ قرارتهم، وبالتالي يكون من الصعب استغلالهم من قبل القوى الامبريالية التي تسعى لإعادة هيكلة النظام العالمي حسب إرادتهم. ومن هنا أقول وبكل كل إصرار؛ إن الشباب المبادرين الذين يعملون بلا كلل أو ملل هم أصحاب الهمة العالية والأهداف النبيلة.
كان من بين الأسئلة التي يطرحها علي كثير من الناس متعجبين: "لماذا تكدّ وتجدّ وتسافر كثيرًا للمشاركة في المؤتمرات على الرغم من ازدحام جدول أعمالك في مستشفياتك ومدارسك؟"، فكان جوابي: "إنني أشعر أن هناك محركًا في داخلي، فكلما نويت التباطؤ يدفعني ذلك المحرك إلى الحركة والعمل". نَعم، ذلك المحرك الموجود في داخلي هو الرغبة في تحقيق الهدف. وكأن الشاعر محمد شينارلي كان يقصد حالي عندما قال: "إن فرسي الأصيل تحتي يطير بي؛ فكلما حاولت إلجامه يأبَ علي التوقف".
أعتقد أن هناك الكثير مما يجب علي فعله لخدمة ديني ووطني، ومهما دعوت لأولئك الذين غرسوا في هذه الأخلاق العالية أجدني عاجزًا عن الوفاء بحقهم علي. إنهم بحق قد أضافوا معنى وقيمة كبيرة لحياتي.
لقد أثبت المفكرون أن العيش لأجل قضية معيّنة والاستعداد للموت في سبيل الله والسبب تحقيق النصر في هذه القضية من أكبر الأمور صعوبة. ويجب علي أن أعترف أن اكتشافي لهذه الصعوبة ومحاولتي العيش من أجل تحقيق أهدافي بكل إخلاص وتفانٍ؛ قد أنساني المشقة التي أعانيها؛ وجلب لي السعادة التي أتمناها. وشعوري هذا لا علاقة له بمصلحة دنيوية على الإطلاق. ويجب على الإنسان من تحقيق أهدافه أن ينظر إلى الفشل الواقع فيه أنه نوع من النجاح، لأن الفشل في سبيل غاية عظيمة نصرٌ. وبالتالي فإن همي الأكبر هو محاولة غرس مثل هذه الدوافع وأهميتها في نفوس شبابنا.
عدالة علي عزت بيغوفيتش
عندما بدأ الرئيس السابق للبوسنة والهرسك السيد علي عزت بيغوفيتش الذي يسميه البعض "الرئيس الحكيم" جهاده ضد الصرب كان معه 6 أشخاص فقط، ولكنه استطاع أن يجمع حوله 120 ألف مقاتل مع نهاية الحرب. وقد كان جيشه مكونًا من المسلمين البوسنيين ومن غيرهم. وفي يوم من الأيام أهان قائد كبير من المسلمين قائدًا مسيحيًا أصغر منه رتبة ونال من دينه. فشكا المسيحي القائد المسلم إلى علي عزت بيغوفيتش. وعندما أمر علي بعقد محكمة للقضاء في هذه المشكلة قال له بعض أتباعه: "إننا في ساحة حرب. والشخص المدَّعَى عليه مسلم وقائد كبير في الجيش، وقد تؤدي محاكمته إلى حدوث البلبلة بين الجيش". فكان جواب علي عزت: "إذا كنا سنبتعد عن إقامة العدل فالأحسن لنا أن نخسر الحرب، لأنه لن يكون هناك فائدة من قتالنا". وقد أشار الخليفة الراشد علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- إلى هذا المعنى فقال: "إذا أهملنا الغاية النبيلة التي من أجلها نقاتل؛ فلن يكون هناك معنى للنصر".
بعد كل ما سبق من الكلام لو سألتموني: ما هو هدفك وغاتيك؟، فالجواب "غايتي هو الخلود". أقول ذلك لأنني قد أدركت سر الخلود. نعم، لقد أدركت ذلك السر في قوله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له". هذه الأعمال الثلاثة هي سر الخلود الذي أريده، لأن كل من عمل واحداً من هذه الأعمال الثلاثة يكون صاحب هذا السره الذي يبقيه خالدًا ولو بعد الموت. فالصدقة الجارية؛ والعلم اللذان ذكرا في الحديث مفهوم أمرهما..... أما موضوع الولد الصالح فحسب رأيي المتواضع ليس المقصود به الولد من الصلب فقط. فحدود هذا الولد يتسع بحسب مقدار قوة وتأثير الشخص ومسؤوليته.
تنبيه: الآراء الواردة في المقالة تعبّر عن رأي الكاتب.
[1]يقصد به خضر الذي وردت قصته مع النبي موسى عليه السلام في سورة الكهف. وهناك ناس يعتقدون أنه لا يزال حيا ويستخدمون شخصيته كرمز للإحسان وفعل الخير ومد يد العون للآخَرين.
Be the first to comment .