هرتزوج في أنقرة: لماذا اضطرت تركيا إلى استقبال الرئيس الإسرائيلي؟

د. محمد عبد الحميد

منذ عام 2008 والعلاقات التركية الإسرائيلية تشهد توترًا واضحًا، لا سيما بعد الهجوم الإسرائيلي الغاشم على قطاع غزة، فضلا عن الهجوم الإسرائيلي العسكري على سفينة Mavi Marmaraالتي وقعت في عام 2010، والتي أدت إلى مقتل 10 أتراك في المياه الدولية بين البلدين في البحر المتوسط، وقد اضطرت إسرائيل لاحقا في عام 2016 إلى دفع مبلغ 20 مليون دولار كتعويض لذوي القتلى الأتراك.

ورغم ذلك ظل التوتر قائما بين البلدين طوال الأعوام ال15 الماضية لأسباب كثيرة؛ على رأسها التعدي الإسرائيلي العسكري المتكرر على قطاع غزة، والتآمر الإسرائيلي الواضح على الثورة المصرية واغتيال الرئيس السابق محمد مرسي في محبسه، لكن الأمر الذي تسبب في زيادة التوترات بين البلدين هي مشكلة غاز شرق المتوسط والمحاولات الإسرائيلية للاتفاق مع مصر واليونان وقبرص اليونانية تارة، والتقارب الإسرائيلي اليوناني القبرصي دون مصر تارة أخرى لتقسيم حصص غاز شرق المتوسط وإقصاء تركيا نهائيا من هذا الحق، خصوصا بعد إنشاء هذه الدول منظمة "منتدى غاز شرق المتوسط" بدون دعوة تركيا للانضمام إليها.

طوال الأعوام الخمسة الأخيرة عملت إسرائيل على تزويد اليونان بأنظمة عسكرية وتكنولوجية متقدمة، بل وتحريض مصر واليونان وبعض دول الخليج مثل الإمارات والسعودية على إقامة المناورات العسكرية في شرق البحر المتوسط وفي بحر إيجة، وقطع العلاقات الدبلوماسية أو السياسية أو التجارية مع تركيا في رسائل عدوانية موجّهة ضد أنقرة.

ولا شك أن التدخل الإسرائيلي غير المباشر في الأزمة الليبية ودعم خليفة حفتر كان سببا آخر في سوء العلاقات الدبلوماسية والسياسية بين الجانبين، حتى كادت العاصمة الليبية طرابلس تسقط في يد خليفة حفتر الذي ارتكب مذابح جماعية في حق الليبيين، لولا تدخل تركيا في إبريل عام 2019م ودعم الحكومة الليبية المنتخبة، ثم ترتب على التدخل التركي والعسكري المباشر في الملف الليبي الوصول إلى اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين ليبيا وتركيا في نوفمبر 2019م، والتي قطعت الطريق التعاون في مجال الغاز والطاقة بين إسرائيل وقبرص الرومية في جنوب شرق البحر المتوسط وبين اليونان في الجهة المقابلة، كما أنهت الاتفاقية الليبية التركية بصورة عملية مشروع أنبوب "إيست ميد" بين هذه الأطراف الثلاثة؛ لأن تركيا أعلنت بوضوح أنها لن تسمح بمرور أي أنبوب غاز في مياهها الإقليمية، وبسبب ذلك أجرت السفن التركية العسكرية العديد من المناورات البحرية العسكرية طوال الأعوام الثلاثة الأخيرة حتى لا تنقب أي من هذه الدول الثلاثة فيما تراه تركيا مياهها الوطنية.

حرصت تركيا طوال هذه المدة على إفشال مخططات اليونان وإسرائيل وقبرص الرومية من خلال المناورات العسكرية البحرية بالذخيرة الحية، ومن خلال اتفاقية ترسيم الحدود البحرية مع ليبيا، وأيضا في السعي الحثيث للتقارب والتصالح مع حكومة السيسي في مصر، لقد أرادت تركيا أن تعقد اتفاقية ترسيم حدود بحرية مع مصر كما فعلتها مع ليبيا؛ لأن مصر هي الجار القريب والمباشر في جنوب البحر المتوسط؛ ولأن إبرام مثل هذه الاتفاقية سيقطع الطريق نهائيا على إسرائيل واليونان، وسيضمن حقوق تركيا بصورة نهائية وأكيدة في غاز وثروات البحر المتوسط.

وأمام التقارب التركي مع مصر، واللقاءات الدبلوماسية والاستخباراتية على مدار أكثر من عام بين الجانبين، لم تتحرك المفاوضات بين الجانبين كثيرًا، وأدركت تركيا أن شروط مصر لعقد اتفاق بين الجانبين شبه مستحيلة؛ لأن السيسي اشترط انسحاب تركيا من شمال سوريا والعراق ومن ليبيا أيضًا، وطرد جميع المعارضين المصريين من تركيا، وإغلاق القنوات التلفزيونية المعارضة، وغيرها من الشروط التعجيزية الأخرى.

وبسبب هذا التعنت المصري من جهة، وصلابة الموقف التركي في شرق البحر المتوسط بالدخول في مواجهة عسكرية ضد اليونان أو فرنسا إن استدعى الأمر من جهة أخرى، رأت تركيا أن التقارب مع إسرائيل قد يؤدي إلى حل مشكلة شرق البحر المتوسط، ولهذا السبب أرسلت وفدًا سريا إلى إسرائيل في منتصف شهر فبراير/شباط 2022م للاتفاق بين الجانبين على شروط التقارب والتطبيع الجديدة، وقد مهّدت هذه الزيارة الطريق أمام زيارة الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتزوج إلى أنقرة ولقائه بالرئيس التركي أردوغان في 9 مارس 2022، وقد تباحث الجانبان في العديد من القضايا وناقشا التقارب في ملفات الطاقة والشئون الدفاعية، وزيادة التبادل التجاري بين الجانبين، بل وتناقشا حول الحرب الأوكرانية الروسية وضرورة إيقافها في أقرب وقت ممكن.

اتفق الجانبان أيضا على زيارة وزير الطاقة التركي إلى إسرائيل للاتفاق على مسألة توريد الغاز الإسرائيلي إلى أوروبا من خلال الأراضي التركية، وهي مسألة فنية ولوجستية سيتم مناقشتها بالتفصيل بين الجانبين في هذا اللقاء، الأمر الذي يجب الإشارة إليه أن التقارب الإسرائيلي مع أي دولة من دول الجوار الإقليمي غالبا ما يكون وفق شروط إسرائيلية، وهذا ما يؤكده الباحث في الشأن الإسرائيلي صالح النعامي، وأن هذه الشروط قد تدخل في إطار الابتزاز والضغط على الجانب التركي.

تريد إسرائيل من تركيا أن تطرد قادة المقاومة الفلسطينية المقيمين في تركيا، وعلى رأسهم قادة حماس ومنظمة الجهاد في إسطنبول وغيرها، كما تسعى إلى إقصائهم وإبعادهم خارج الأراضي التركية منذ فترة، ومع اقتراب الاتفاق النووي الإيراني مع أمريكا تريد إسرائيل ضمانة أمنية إقليمية مع الدول الكبرى مثل مصر وتركيا في مواجهة أي هجوم إيراني بالطائرات بدون طيار أو غيرها، من جهة أخرى تسعى تركيا مع الأوضاع الاقتصادية المتأزمة وانخفاض قيمة الليرة منذ عام 2018 إلى تحقيق السلام والاستقرار الإقليمي، وزيادة التبادل التجاري مع كل دول الإقليم ، ولهذا السبب قبلت التصالح والتقارب مع الإمارات وإسرائيل، وتسعى بكل جدية للتقارب مع السعودية ومصر وبقية دول الخليج.

الأسابيع والأشهر القادمة – وفي ظل الأزمة الأوكرانية – ستمثل عامل ضغط على كل من إسرائيل وتركيا، في ظل التهديدات الأمنية والاقتصادية التي تواجه كلا الطرفين؛ ولهذا السبب سنرى إذا ما كان التقارب التركي الإسرائيلي سيثمر عن نتائج حقيقية في المجالات الاقتصادية والطاقة والدفاع وترسيم الحدود البحرية أم ستصر إسرائيل على ابتزاز تركيا وفرض شروطها.