Sosyal Medya

السياسة

أبطالٌ خلّدتهم ذاكرة التّاريخ: الأمير ديبونغورو ! بطل قومي وقائد مسلم مجاهد

وإنّه لدَينٌ على التّاريخ أن يخلّد ذكرَ أولئك الّذين سطّروا أسماءهم في صفحات التّاريخ ببطولاتهم ومواقفهم ضد الظّلم والظَّــــلَمة

                                     بقلم: مدثر موسى
 
 
          لا نامت أعينُ الجبناء. فبينما يموت الجبناءُ في كل ثانية يعيش الأبطال عمراً على أعمارهم. وإنّه لدَينٌ على التّاريخ أن يخلّد ذكرَ أولئك الّذين سطّروا أسماءهم في صفحات التّاريخ ببطولاتهم ومواقفهم ضد الظّلم والظَّــــلَمة، فاستحقّوا بذلك الاحترامَ حتى من قِـبـل أعدائهم، وليس ذلك منّةً عليهم من أحد، وإنّـما هو استحقاق استحقّوه بكفاحهم النّبيل.
 
          وحديثنا سيكون عن تلك البقعة المباركة المتكوّنة من آلاف الجزر في جنوب شرق آسيا بين المحيطَيْن الهندي والهادي، تلك البقعة الّتي لا تزال تتمتّع بشرف كونها أكبرَ دولة مسلمة على أديم الأرض من حيث الكثافة السّكّانيّة، إنها دولة "إندونيسيا". وسيتمركز حديثنا بالتّحديد حول جزيرة جاوا، أكبرِ جزيرة في إندونيسيا من حيث التّعداد السّكّانيّ بحوالي 152مليون نسمة من أصل 280مليون شخص الّذي هو التّعداد السّكّانيّ الإجماليّ لدولة إندونيسيا.
 
 
 
                                               نظرة على سلطنة ماتارام وسلطنة جوك جاكرتا
 
          الإسلام دين الرّحمة والعدل، دينٌ جاء لإنقاذ البلاد والعباد من ضيق وظلم الكفر إلى سعة وعدل الإسلام. فالإسلام لا يطأ موطئاً إلّا وجلب إليه الحياةَ والعزّة والرّفعة. وهذا الكلام ينطبق بطبيعة الحال على إندونيسيا. إنّ أسلمةَ إندونيسيا لتستحقّ أن تُسطَّر بماء الذّهب بأحرف من نور، وأن تُعتبَـر معجزةً من معجزات الإسلام الخالدة على مرّ العصور، إذ إنّ دخول الإسلام إلى هذه المنطقة كان عن طريق العلماء والدّعاة والتّجار المسلمين دون أن يُسَلّ في طريق ذلك أيُّ سيف. وهذا يعني أنّ وصول الإسلام إلى أكبر كتلة بشرية إسلاميّة على وجه الأرض كان عن طريق السّلم دون إكراه أو إجبار، وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على أنّ الإسلام ليس دينَ سيف وإنّما هو دين رحمةٍ وعدلٍ ومساواةٍ.    
 
           لقد استطاع المسلمون الإندونيسيّون أن يقيموا دولاً إسلاميّةً قويّةً تركت أثراً كبيراً في التّاريخ. ومن أعظم وأكبر تلك الدّول سلطنة ماتارام وسلطنة جوك جاكرتا الّتي قامت بعد تفكّك الأُولى. لقد قامت سلطنة ماتارام الإسلاميّة في وسط إقليم جاوا، وحَكمتْ ما بين 1586-1755 م. وقد بلغتْ هذه الدّولة أوج قوّتها في عهد السّلطان أغونغ ( 1613-1645Sultan Agun)، ولكن بعد وفاته دبّ الخلاف والنّــزاع على العرش داخل العائلة الحاكمة ممّا أدّى إلى ضعفها وتفكّكها وانقسامها في عام 1755م إلى مملكتين: الأولى سلطنة سُورَقَطْرَة، والأخرى سلطنة جُوكْ جاكرتا (1755-1950) الّتي تُعتَبر وريثةَ سلطنة ماتارام من حيث القوّة والنّفوذ والتّأثير. وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ إندونيسيا شهدتْ منذ بداية القرن 17 إرهاصاتٍ ومحاولاتٍ استعماريّةً أوليّةً من قِبل دولة هولندا. وبالتّالي فقد كانت لتدخّلات الهولنديّين آثارٌ ملموسةٌ ومدمّرةٌ في تأجيج الصّراع بين أفراد الأسرة الحاكمة في ماتارام بُغيةَ إضعافها ثـمّ السّيطرة عليها. وقد نجحوا في ذلك إلى حدّ كبير. وبعد تفكّك سلطنة ماتارام وقعت الدّول الّتي قامت على أنقاضها تحت سيطرة المستعمرين الهولنديّين الّذين تسلّطوا على البلاد وأذاقوا العبادَ أليمَ الأذى من ظلم وقهر وضرائبَ لا تطاق. ولكن كما يقول الرّئيس الرّوسي فلاديمير بوتين: "لا تدفعَنَّ فأرةً إلى نقطةٍ لا تجد فيها أيَّ مَـخرج. فإنّها في تلك الحالة ستُضطرُّ للهجوم والدّفاع عن نّفسها بكلّ ما أوتيتْ من قوّة من أجل حرّيّتها وبقائها على قيد الحياة". وهذه المقولةُ نفسُها انطبقت على شعب جوك جاكرتا، لأنّهم لما اشتدّتْ عليهم وطأةُ ظلمِ المستعمرين كان لا بدّ من التّحرّك لدفع الظّلم، وهذا يتّفق وروحَ الإسلام: " اُذِنَ لِلَّذينَ يُقَاتَلُونَ بِاَنَّهُمْ ظُلِمُواؕوَاِنَّ اللّٰهَ عَلٰى نَصْرِهِمْ لَقَديرٌۙ". وقد كان هذا التّحرّك تحت إمرة القائد الأمير مُسْتَهَر أَنْتَاوِيرَا (Mustahar Antawirya) المعروف باسم ديبونغورو  (Diponegoro).  فـــمــــــــن يـــــــــــكـــــــــــــون هـــــــــذا البطــــــــــــــــــــــــــــــل يــا تُـــــــــــــــــــــــــرى!!!!
 
 
 
                                                                 المولد والنّشأة:
 
       وُلِد ديبونغورو  في في جوك جاكرتافي11 من شهر نوفمبر سنة 1785، وكان أكبرَ أولاد سلطان سلطنة جوك جاكرتا هامنغكوبوونو الثّالث(Hamengkubuwono III). وبعد وفاة والده السّلطان عام 1814، انتقل الحكْم إلى أخيه الأصغر غير الشّقيق، هامنغكوبوونو الرّابع المدعوم من المستعمرين الهولنديّين. وكان الأميرُ ديبونغورو  غيرَ راضٍ عن طاعة أخيه العمياء وتَبَعيّتِه اللّامشروطة واللّامحدودة للهولنديّين مع تغاضيه عن الظّلم الّذي يتعرّض له الشّعب. وفي عام 1821 توفّي أخوه السّلطان، وكان الأميرُ ديبونغورو  هو الأنسبَ والأجدرَ لتولّي السّلطة بعده، ولكنّ ألاعيبَ الهولنديّين حالت دون ذلك، حيث تدخّلوا وعيّنوا ابنَ السّلطان المتوفَّى الّذي لا يزال صبيّاً ليكون السّلطانَ الجديد، ولكي يبقى مجرّدَ دُمْيةٍ في أيديهم يوجّهونه حسبما يريدون. إزاء هذه التّطوّرات الخطيرة أصبح لزاماً على الأمير ديبونغورو أن يتحرّك لإنقاذ الموقف قبل فوات الأوان، وقد ساعده في هذه الخطوة استياءُ الشّعب من السّلطان الجديد وداعميه من المستعمرين الهولنديّين على حدٍّ سواء.
 
 
 
                                                            مقاومة الاستعمار والثّورة ضد الظّلم
 
             نتيجةً للتّطوّرات المتسارعة في السّلطنة من فوضى سياسيّة ومجاعة وظلْم أصبح المستعمرون مكروهين من الجميع، وبالتّالي التفَّ الشّعبُ وجمعٌ غفير من النّبلاء حول الأمير الّذي اعتبروه هديّةً سماويّةً وُجدتْ في الوقت المناسب ليقودهم نحو بَــــرّ الحــــــــــــــرّيّـــــــة والعــــــزّة. لقد استطـــــاع الأميرُ أن ينظِّم صفوفَ أتباعه وأن يُوقِع خسائرَ فادحةً في صفوف جيش المستعمرين خلال سنوات 1825-1829م. وربما يعود السّبب وراء نجاح الأمير إلى عنصر المفاجأة، إضافةً إلى تقليل المستعمرين في بداية الأمر من شأن حركته الثّوريّة ومن إمكانيّة تشكيله حركةَ مقاومةٍ شعبيّةٍ قويّةٍ موجَّهةٍ ضدّهم. ولكنّ المستعمرين أدركوا بعد وقت قصير أنّهم قائدٍ حقيقيّ من الطّراز الرّفيع. ولأجل القضاء نهائيّاً على حركة المقاومة والثّورة عيَّنتْ هولندا الجنرال الحديديّدى كوكمدعوماً بعدد كبير من القوّات المسلّحة والمدجّجة بأسلحة ثقيلة وأرسلته إلى المنطقة. اتّبعتِ القوّات الهولنديّة نظام التّطويق والهجوم. فمن خلال نظام التّطويق تمّت محاصرةُ مواقع قوّات الأمير والسّيطرة على خطوط الإمداد بالغذاء والسّلاح للضّغط عليهم نفسيّاً ولمنعهم من حرّيّة الحركة والمناورة. وبعد نجاح هذه الخطّة انتقل المستعمرون الهولنديّون إلى خطّة الهجوم. وكانت النّتيجةُ هزيمةَ الأمير واستشهادَ عددٍ كثير من قوّاته بعدما سطّروا بدمائهم في ساحة المعارك بطولاتٍ خلّدتْها صفحاتُ التّاريخ وأصبحتْ مصدرَ إلهامٍ للأجيال اللّاحقة.
 
               وفي عام 1830م بدأتِ المفاوضاتُ بين الطّرفين، ومع أنّ نتائج الحرب الميدانيّة لم تكن في صالح الأمير إلّا أنّه وقف وقوف الجبال الشّامخات وأصرّ على مطالبه العادلة المتمثلة في الاعتراف به سلطاناً شرعيّاً ممثِّلاً للشّعب أجمعِه في جزيرة جاوا كلِّها. ولـمّا فشلتْ هولندا في دفعه عن موقفه غدرتْ به واعتقلته ثـمّ نفته مع أهله وبعض أتباعه إلى مدينة مَكَسَّرْ (Makassar)في 28 مارس 1830م.
 
             وفي 8 يناير 1855، وبعد أنْ قضى قرابة 25 سنةً في الـمَنفَى سلّم الأميرُ روحَه إلى بارئها. لقد مات الأمير ولكنّ ذكره لا يزال حيّاً تتناقله الألسنُ على مرّ العصور والدّهور.
 
أخيرا:"لَقَدْ كَانَ في قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِاُو۬لِي الْاَلْبَابِ". بعضٌ ممّا نتعلّمها من قصة حياة الأمير ديبونغورو :
 
  • إنّ الوقوف إلى جانب الحقّ والقضايا العادلة سبب العزّ والرّفعة والخلود في ذاكرة التّاريخ: فقد مرّ على سلطنة جوك جاكرتا سلاطينُ جلسوا على عرش الحكم، ومع ذلك لم يرتقوا إلى المكانة والاعتبار التّاريخيَّيْن الّذَيْن وصلهما الأمير بالرّغم من أنّه لم يجلس على عرش السّلطنة ولو يوماً واحداً.
  • إنّ الأبطال الّذين قدّموا حياتهم خدمةً للدّين والشّعوب يَـجزيهم التّاريخُ بكسب محبّة الجميع: فالأمير ديبونغورو  رغم خسارته المعركة النّهائيّة في عام 1830م أمام المستعمرين الهولنديّين إلّا أنّه كسب قلوب الشّعب الإندونيسيّ خصوصاً والشّعوب الإسلاميّة عموماً. كيف لا! وقد كانت ثورتُه ضدّ الوجود الاستعماريّ الهولنديّ الشّرارةَ الّتي أشعلتْ نارَ الحرّيّة في قلوب الشّعب الإندونيسيّ المسلم وأثبتتْ لهم أنّ هزيمة وطرد المستعمرين ممكنة. ولقد لعبتْ حركتُه الثّوريّة دوراً بارزاً في حركات الاستقلال الّتي قامت فيما بعدُ وأدّت في النّهاية إلى الاستقلال التّامّ. ولذلك فليس غريباً أن نرى الشّعب الإندونيسيّ يخلِّد ذكر هذا القائد الـمُلهِم ببناء ثماتيلَ له وإطلاقِ اسمه على الموسّسات الحكوميّة والتّعليميّة وعلى القواعد العسكريّة والسّفن الحربيّة وغيرها مم الـمَرافِق.
 
                                       رحم اللهُ الأميرِ ديبونغورو  وجميعَ أبطالِ الإسلام...

Be the first to comment .

* * Required fields are marked